الاثنين، 30 أكتوبر 2023

دخول النبي صلى اللَّه عليه وسلم إلى المدينة

  *كَمْ أَقَامَ الرَّسُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِقُبَاءَ؟

قَالَ ابنُ إِسْحَاقَ: قدم رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قُبَاءَ، فنزل فِي حَيٍّ يُقَالُ لَهُمْ بَنِي عَمْرِو بنِ عَوْفٍ فَأَقَامَ فِيهِمْ أَرْبَعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً وفي رواية أربع ليال.


تَأْسِيسُ مَسْجِدِ قُبَاءَ

كَانَ أَوَّلَ عَمَلٍ قَامَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لَمَّا قَدِمَ قُبَاءَ أَنْ أَسَّسَ مَسْجِدَ قُباءَ، وَهُوَ المَسْجِدُ الذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى وَصَلَّى فِيهِ، وَهُوَ أَوَّلُ مَسْجِدٍ بُنِيَ فِي الإِسْلَامِ .

 وَهُوَ أَوَّلُ مَسْجِدٍ صَلَّى النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِيهِ بِأَصْحَابِهِ جَمَاعَةً ظَاهِرًا، وَأَوَّلُ مَسْجِدٍ بُنِيَ لِجَمَاعَةِ المُسْلِمِينَ عَامَّةً.

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} (سورة التوبة ).

وفي رواية أخرى أن المقصود بالمسجد الذي أسس على التقوى في الآية هو مسجد المدينة فقد رَوَى الإِمَامُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عَنِ المَسْجِدِ الذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى، فَقَالَ: "هُوَ مَسْجِدُكُمْ هَذَا" -لِمَسْجِدِ المَدِينَةِ.


* فَضَائِلُ مَسْجِدِ قُباءٍ:

 عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بنِ سَهْلِ بنِ حُنَيْفٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ أَبِي: قَالَ رَسُولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَنْ خَرَجَ حَتَّى يَأْتِي هَذَا المَسْجِدَ" -يَعْنِي مَسْجِدَ قُبَاءٍ- "فَيُصَلِّي فِيهِ، كَانَ كَعَدْلِ عُمْرَةٍ" (أخرجه الإمام أحمد في مسنده ).

وَرَوَى الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا عَنِ ابنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- يأْتِي مَسْجِدَ قبَاءٍ كُلَّ سَبْتٍ مَاشِيًا وَرَاكِبًا.


ارْتِحَالُ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنْ قُبَاءٍ وَأَوَّلُ جُمُعَةٍ صَلاهَا

وَلَمَّا كَانَ يَوْمَ الجُمُعَةِ رَكِبَ رَسُولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- رَاحِلَتَهُ، وَأَبُو بَكْرٍ -رضي اللَّه عنه- خلفه، وَأَرْسَلَ إِلَى مَلأٍ مِنْ بَنِي النَّجَارِ، فَجَاءُوا مُتَقَلِّدِي سُيُوفَهُمْ، فَسَارَ بِهِمْ نَحْوَ المَدِينَةِ، وَهُمْ مُحيطون به.


فَأَدْرَكَتِ الرَّسُولَ -صلى اللَّه عليه وسلم- صَلَاةُ الجُمُعَةِ فِي دِيَارِ بَنِي سَالِمِ بنِ عَوْفٍ،فَصَلَّاهَا فِي المَسْجِدِ الذِي فِي بَطْنِ وَادِي رَانُونَاءَ (وادٍ بين قباء والمدينة) بِمَنْ مَعَهُ مِنَ المُسْلِمِينَ، وَهُمْ مِئَةٌ، وَاسْتَقْبَلَ بَيْتَ المَقْدِسِ، فَلَمَّا أَبْصَرَتْهُ اليَهُودُ صَلَّى إِلَى قِبْلَتِهِمْ تَذَاكَرُوا بَيْنَهُمْ أَنَّهُ النَّبِيُّ الذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ.


قَالَ الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ: فَكَانَتْ هَذِهِ أَوَّلَ جُمُعَةٍ صَلَّاهَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِالمُسْلِمِينَ بِالمَدِينَةِ، أَوْ مُطْلَقًا، لِأَنَّه واللَّه أَعْلَمُ لَمْ يَكنْ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَتَمَكَّنُ هُوَ وَأَصْحَاُبهُ بِمَكَّةَ مِنَ الِاجْتِمَاعِ حَتَّى يُقِيمُوا بِهَا جُمُعَةً ذَاتَ خُطْبةٍ وإعْلَانٍ بِمَوْعِظَةٍ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِشِدَّةِ مُخَالفَةِ المُشْرِكِينَ لَهُ، وَأَذِيَّتِهِمْ إِيَّاهُ، وَسُمِّيَتِ الجُمُعَةُ جُمُعَةً؛ لِأنَّهَا مُشْتَقَّةً مِنَ الجَمْعِ، فَإِنَّ أَهْلَ الإِسْلَامِ يَجْتَمِعُونَ فِيهِ فِي كُلِّ أُسْبُوعٍ مَرَّةً.


* استِقْبَالُ أَهْلِ المَدِينَةِ الرَّسُولَ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَفَرَحُهُمْ بِهِ:

ثُمَّ رَكِبَ رَسُولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- نَاقتهُ مِنْ دِيَارِ بَنِي سالِمِ بنِ عَوْفٍ، وَأَرْخَى لَهَا الزِّمَامَ أي ترك الحبل لتذهب الناقة حيث تشاء، فَأتاهُ عِتْبَانُ بنُ مَالِكٍ، وَعَبَّاسُ بنُ عُبَادَةَ بنِ نَضْلَةَ فِي رِجَالٍ مِنْ بَنِي سالِمِ بنِ عَوْفٍ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّه! أَقِمْ عِنْدَنَا فِي العَدَدِ وَالعُدَّةِ ( أي المال والسلاح) وَالمَنَعَةِ (القوة التي تَمنع من يُريدهم بسُوءٍ)، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "خَلُّوا سَبِيلَهَا فَإِنَّهَا مَأْمُورَةٌ"، فَخَلُّوا سَبِيلَهَا، فَانْطَلَقَتْ، حَتَّى إِذَا وَازَنَتْ دَارَ بَنِي بَيَاضَةَ، تَلَقَّاهُ زِيَادُ بنُ لَبِيدٍ -رضي اللَّه عنه-، وَفَرْوَةُ بنُ عَمْرٍو -رضي اللَّه عنه-، فِي رِجَالٍ مِنْ بَنِي بَيَاضَةَ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّه! هَلُمَّ إِلَيْنَا، إِلَى الْعَدَدِ وَالْعُدَّةِ وَالْمَنَعَةِ، فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "خَلُّوا سَبِيلَهَا فَإِنَّهَا مَأْمُورَةٌ" فَخَلُّوا سَبِيلَهَا، فَانْطَلَقَتْ، حَتَّى إِذَا مَرَّتْ بِدَارِ بَنِي سَاعِدَةَ، اعْترَضَهُ سَعْدُ بنُ عُبَادَةَ -رضي اللَّه عنه-، وَالْمُنْذِرُ بنُ عَمْرٍو -رضي اللَّه عنه-، فِي رِجَالٍ مِنْ بَنِي سَاعِدَةَ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّه، هَلُمَّ إِلَيْنَا إِلَى الْعَدَدِ وَالْعُدَّةِ وَالْمَنَعَةِ، فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "خَلُّوا سَبِيلَهَا فَإِنَّهَا مَأْمُورَةٌ"، فَانْطَلَقَتْ، حَتَّى دَخَلَ رَسُولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- المَدِينَةَ بَعْدَ الجُمُعَةِ، فِي جَوٍّ مَشْحُونٍ بِالفَرَحِ وَالبَهْجَةِ وَالسُّرُورِ، وَكَانَ يَوْمًا تَارِيخِيًّا مَشْهُودًا، فَقَدْ كَانَتِ البُيُوتُ وَالسِّكَكُ تَرْتَجُّ بِأَصْوَاتِ التَّحْمِيدِ وَالتَّكْبِيرِ.

وَأَشْرَقَتِ المَدِينَةُ بِحُلُولهِ فِيهَا -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَسَرَى السُّرُورُ إِلَى القُلُوبِ.


وَأَخْرَجَ الإِمَامُ البُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنِ البَرَاءِ بنِ عَازِبٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: . . . فَمَا رَأَيْتُ أَهْلَ المَدِينَةِ فَرِحُوا بِشَيءٍ فَرَحَهُمْ بِرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، حَتَّى جَعَلَ الإِمَاءُ (جمع الأمة وهي عكس الحرة) يَقُلْنَ: قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- .


وَأَخْرَجَ الإِمَامُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنِ البَرَاءِ بنِ عازِبٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: . . . فَصَعَدَ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ فَوْقَ البُيُوتِ، وَتَفَرَّقَ الغِلْمَانُ وَالخَدَمُ فِي الطُّرُقِ، ينَادُونَ: يَا مُحَمَّدُ! يَا رَسُولَ اللَّه! يَا مُحَمَّدُ! يَا رَسُولَ اللَّهِ.


وَأَخْرَجَ ابنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: . . . فَخَرَجَ النَّاسُ حِينَ قَدِمْنَا المَدِينَةَ فِي الطُّرُقِ، وَعَلَى البُيُوتِ مِنَ الغِلْمَانِ وَالخَدَمِ يَقُولُونَ: جَاءَ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ.

وَرَوَى البَيْهَقِيُّ فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ عِنْ أَنسٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: فَخَرَجَتْ جَوَارٍ مِنْ بَنِي النَّجَارِ يَضْرِبْنَ بِالدُّفِ وَهُنَّ يَقُلْنَ:

نَحْنُ جَوَارٍ مِنْ بَنِي النَّجَارِ ... يَا حَبَّذَا مُحَمَّدٌ مِنْ جَارِ 

وَأَخْرَجَ ابنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَالإِمَامُ أَحْمَدُ فِي المُسْنَدِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ أَنَسِ بنِ مَالِكٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: لَمَّا كَانَ اليَوْمُ الذِي دَخَلَ رَسُولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فِيهِ المَدِينَةَ، أَضَاءَ مِنْهَا كُلُّ شَيْءٍ.



وَأَخْرَجَ الإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ أَنَسٍ -رضي اللَّه عنه- أَنَّهُ قَالَ: . . . فَمَا رَأَيْتُ يَوْمًا قَطُّ أَنْوَرَ وَلَا أَحْسَنَ مِنْ يَوْمِ دَخَلَ رَسُولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وَأَبُو بَكْرٍ المَدِينَةَ.


وَكَانَ رَسُولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لَا يَمُرُّ بِدَارٍ مِنْ دُورِ الأَنْصَارِ إِلَّا أَخَذُوا حبل رَاحِلَتِهِ قَائِلِينَ: هَلُمَّ يَا رَسُولَ اللَّه إِلَى العَدَدَ وَالعُدَّةِ وَالمَنَعَةِ، فَكَانَ يَقُولُ لَهُمْ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "خَلُّوا سَبِيلَهَا فَإِنَّهَا مَأْمُورَةٌ"، وَلَمْ تَزَلْ نَاقَتُهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- سَائِرَةً بِه حَتَّى إِذَا أَتَتْ دَارَ بَنِي مَالِكِ ابنِ النَّجَارِ -وَهُوَ مَوْضِعُ المَسْجِدِ النَّبَوِيِّ اليَوْمَ- بَرَكَتْ فَلَمْ يَنْزِلْ عَنْهَا -صلى اللَّه عليه وسلم-، حَتَّى نَهَضَتْ وَسَارَتْ قَلِيلًا، ثُمَّ الْتَفَتَتْ، وَرَجَعَتْ وَبَرَكَتْ فِي مَوْضِعِهَا الأَوَّلِ، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ مَرْبِدٌ ( هو الموضع الذي يُجعل فيه التَّمر ليَنْشَف) لِلتَّمْرِ لِسَهْلٍ وَسُهَيْلٍ ابْنَيْ عَمْرٍو غُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ مِنْ بَنِي مَالِكِ بنِ النَّجَارِ، وَهُمَا فِي حِجْرِ أَسْعَدِ بنِ زُرَارَةَ -رضي اللَّه عنه-.


فَلَمَّا بَرَكَتْ نَزَلَ عَنْهَا رَسُولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَذَلِكَ فِي بَنِي النَّجَارِ أَمَامَ دَارِ أَبِي أَيُّوبَ الأَنْصَارِيِّ -رضي اللَّه عنه-، فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "هَذَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ المَنْزِلُ"، وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ تَوْفِيقِ اللَّه تَعَالَى لِلنَّاقَةِ، فَإِنَّهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَحَبَّ أَنْ يَنْزِلَ عَلَى أَخْوَالِهِ مِنْ بَنِي النَّجَارِ.

ثُمَّ قَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أَيُّ بُيُوتِ أَهْلِنَا أَقْرَبُ؟ ".

فَقَالَ أَبُو أَيُّوبَ: أَنَا يَا نَبِيَّ اللَّه، هَذِهِ دَارِي، وَهَذَا بَابِي، فَقَالَ لَهُ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "فَانْطَلِقْ فَهَيِّئْ لَنَا مَقِيلًا" (مكانا للاستراحة)، فَاحْتَمَلَ أَبُو أَيُّوبَ -رضي اللَّه عنه-، الرَحْلَ الذي كان على ناقة النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَوَضَعَهُ فِي بَيْتهِ، فَأَتَى رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّه! أَيْنَ تَحِلُّ؟


قَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "المَرْءُ مَعَ رَحْلِهِ"، وَجَاءَ أَسْعَدُ بنُ زُرَارَةَ فَأَخَذَ بِزِمَامِ ناقته -صلى اللَّه عليه وسلم- وَكَانَتْ عِنْدَهُ .

وَنَزَلَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ -رضي اللَّه عنه- عَلَى خَارِجَةَ بنِ زَيْدٍ -رضي اللَّه عنه-.

نكمل معا في الحلقة القادمة إن شاء الله تابعونا بارك الله فيكم

السبت، 30 سبتمبر 2023

قصة إسلام سلمان الفارسي رضي الله عنه

 قصة إسلام سلمان الفارسي رضي الله عنه 


وقصته طويلة وعجيبة في بحثه عن الحقيقة وعن الدين الحق وترك عبادة النار.. لنتعرف معا عليها.

بَيْنَمَا الرَّسُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي قُبَاءَ، قَدِمَ عَلَيْهِ سَلْمَانُ الفَارِسِيُّ -رضي اللَّه عنه-، وَلْنَتْرُكَ سَلْمَانَ -رضي اللَّه عنه- يُحَدِّثُنَا عَنْ قِصَّةِ إِسْلَامِهِ، يَقُولُ سَلْمَانُ -رضي اللَّه عنه-: كُنْتُ رَجَلًا فَارِسِيًّا مِنْ أَهْلِ أَصْبَهَانَ ( مدينةٌ في إيران) مِنْ أَهْلِ قَرْيَةٍ مِنْهَا يُقَالُ لَهَا: جَيُّ، وَكَانَ أَبِي رئيس القرية، وَكُنْتُ أَحَبَّ خَلْقِ اللَّهِ إِلَيْهِ، ومن شدة حُبُّهُ لي حبَسَنِي فِي بَيْتِهِ كَمَا تُحْبَسُ الجَارِيَةُ، وَاجْتَهَدْتُ فِي المَجُوسِيَّةِ (يعبُد أصحابها النار) حَتَّى كُنْتُ ملازما للنار أوقدها ولا أتركها تخبو ساعة، 

قَالَ: وَكَانَتْ لِأَبِي ضَيْعَةٌ (صنعة أو تجارة أو زراعة يعيش منها) عَظِيمَةٌ، قَالَ: فَشُغِلَ فِي بُنْيَانٍ لَهُ يَوْمًا، فَقَالَ لِي: يَا بُنَيَّ، إِنِّي قَدْ شُغِلتُ فِي بُنْيَانِ هَذَا اليَوْمِ عَنْ ضَيْعَتِي، فَاذْهَبْ هناك، وَأَمَرَنِي فِيهَا بِبَعْضِ مَا يُرِيدُ، فَخَرَجْتُ ذاهبًا إلى الضيعة، فَمَرَرْتُ بِكَنِيسَةٍ مِنْ كَنَائِسِ النَّصَارَى، فَسَمِعْتُ أَصْوَاتَهُمْ فِيهَا وَهُمْ يُصَلُّونَ، وَكُنْتُ لَا أَدْرِي مَا أَمْرُ النَّاسِ لِحَبْسِ أَبِي إِيَّايَ فِي بَيْتِهِ، فَلَمَّا مَرَرْتُ بِهِمْ، وَسَمِعْتُ أَصْوَاتَهُمْ، دَخَلْتُ عَلَيْهِمْ أَنْظُرُ مَا يَصْنَعُونَ، قَالَ: فَلَمَّا رَأَيْتُهُمْ أَعْجَبَنِي صَلَاتُهُمْ، وَرَغِبْتُ فِي دينهم، وَقُلْتُ: هَذَا وَاللَّهِ خَيْرٌ مِنَ الدِّينِ الذِي نَحْنُ عَلَيْهِ، فَوَاللَّهِ مَا تَرَكْتُهُمْ حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ، وَتَرَكْتُ ضَيْعَةَ أَبِي وَلَمْ آتِهَا،

 فَقُلْتُ لَهُمْ: أَيْنَ أَصْلُ هَذَا الدِّينِ؟

قَالُوا: بِالشَّامِ. قَالَ: ثُمَّ رَجَعْتُ إِلَى أَبِي، وَقَدْ بَعَثَ يبحث عني وَشَغَلْتُهُ عَنْ عَمَلِهِ كُلِّهِ، قَالَ: فَلَمَّا جِئْتُهُ قَالَ: أَيْ بُنَيَّ، أَيْنَ كُنْتَ؟ أَلمْ أَكُنْ عَهِدْتُ إِلَيْكَ مَا عَهِدْتُ؟ قَالَ: قُلْتُ: يَا أَبَتِ، مَرَرْتُ بِنَاسٍ يُصَلُّونَ فِي كَنِيسَةٍ لَهُمْ فَأَعْجَبَنِي مَا رَأَيْتُ مِنْ دِينِهِمْ، فَوَاللَّهِ مَا زِلْتُ عِنْدَهُمْ حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ، قَالَ: أَيْ بُنَيَّ، لَيْسَ فِي ذَلِكَ الدِّينِ خَيْرٌ، دِينُكَ وَدِينُ آبَائِكَ خَيْرٌ مِنْهُ، قَالَ: قُلْتُ: كَلَا وَاللَّهِ إِنَّهُ لَخَيْرٌ مِنْ دِينِنَا. قَالَ: فَخَافَ علي، فَجَعَلَ فِي رِجْلِي قَيْدًا، ثُمَّ حبَسَنِي فِي بَيْتِهِ.

قَالَ سَلْمَانُ: وَبَعَثْتُ إِلَى النَّصَارَى فَقُلْتُ لَهُمْ: إِذَا قَدِمَ عَلَيْكُمْ رَكْبٌ مِنَ الشَّامِ تُجَّارٌ مِنَ النَّصَارَى فَأَخْبِرُونِي بِهِمْ. قَالَ: فَقَدِمَ عَلَيْهِمْ رَكْبٌ مِنَ الشَّامِ تُجَّارٌ مِنَ النَّصَارَى، قَالَ: فَأَخْبَرُونِي بِهِمْ.

قَالَ: فَقُلْتُ لَهُمْ: إِذَا قَضَوْا حَوَائِجَهُمْ وَأَرَادُوا العودة إِلَى بِلَادِهِمْ فَأعلموني.

قَالَ: فَلَمَّا أَرَادُوا الرَّجوع إِلَى بِلَادِهِمْ أَخْبَرُونِي بِهِمْ، فَأَلْقَيْتُ الحَدِيدَ مِنْ رِجْلِي، ثُمَّ خَرَجْتُ مَعَهُمْ حَتَّى وصلت الشَّامَ، فقُلْتُ: مَنْ أَفْضَلُ أَهْلِ هَذَا الدِّينِ؟ قَالُوا: الأُسْقُفُ فِي الكَنِيسَةِ قَالَ: فَجِئْتُهُ، فَقُلْتُ: إِنِّي قَدْ رَغِبْتُ فِي هَذَا الدِّينِ، وَأَحْبَبْتُ أَنْ أَكُونَ مَعَكَ أَخْدِمُكَ في كَنِيسَتِكَ، وَأَتَعَلَّمُ مِنْكَ وَأُصَلِّي مَعَكَ، قَالَ: فَادْخُلْ، فَدَخَلْتُ مَعَهُ، قَالَ سَلْمَانُ: فَكَانَ رَجُلَ سَوْءٍ، يَأْمُرُهُمْ بِالصَّدَقَةِ وَيُرَغِّبُهُمْ فِيهَا، فَإِذَا جَمْعُوا إِلَيْهِ مِنْهَا أَشْيَاءَ، اكْتَنَزَهُ لِنَفْسِهِ، وَلَمْ يُعْطِهِ المَسَاكِينَ، حَتَّى جَمَعَ سَبْعَ قِلَالٍ ( إناءٌ كالجَرَّةِ الكبيرة) مِنْ ذَهَبٍ وَفضة، قَالَ سَلْمَانُ: وَأَبْغَضْتُهُ بُغْضًا شَدِيدًا لِمَا رَأَيْتُهُ يَصْنَعُ، ثُمَّ مَاتَ، فَاجْتَمَعَتْ إِلَيْهِ النَّصَارَى لِيَدْفِنُوهُ، فَقُلْتُ لَهُمْ: إِنَّ هَذَا كَانَ رَجُلَ سَوْءٍ يَأْمُرُكُمْ بِالصَّدَقَةِ وَيُرَغِّبُكُمْ فِيهَا، فَإِذَا جِئْتُمُوهُ بِهَا اكْتَنَزَهَا لِنَفْسِهِ وَلَمْ يُعْطِ المَسَاكِينَ مِنْهَا شَيْئًا. قَالُوا: وَمَا عِلْمُكَ بِذَلِكَ؟

قَالَ: قُلْتُ: أَنَا أَدُلُّكُمْ عَلَى كَنْزِهِ، قَالُوا: فَدُلَّنَا عَلَيْهِ، قَالَ سَلْمَانُ: فَأَرَيْتُهُمْ مَوْضِعَهُ، قَالَ سَلْمَانُ: فَاسْتَخْرَجُوا مِنْهُ سَبْعَ قِلَالٍ مَمْلُوءَةً ذَهَبًا وَفضة، قَالَ: فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا: وَاللَّهِ لَا نَدْفِنُهُ أَبَدًا، فَصَلَبُوهُ، ثُمَّ رَجَمُوهُ بِالحِجَارَةِ.


ثُمَّ جَاءُوا بِرَجُلٍ آخَرَ، فَجَعَلُوهُ بِمَكَانِهِ، قَالَ: يَقُولُ سَلْمَانُ: فكان رجلا عابدًا زاهدًا في الدنيا قَالَ سَلْمَانُ: فَأَحْبَبْتُهُ حُبًا لَمْ أُحِبَّهُ مِنْ قَبْلِهِ، فَأَقَمْتُ مَعَهُ زَمَانًا، ثُمَّ حَضَرَتْهُ الوَفَاةُ، فَقُلْتُ لَهُ: يَا فُلَانُ، إِنِّي كُنْتُ مَعَكَ وَأَحْبَبْتُكَ حُبًّا لَمْ أُحِبَّهُ مِنْ قَبْلِكَ، وَقَدْ حَضَرَكَ مَا ترَى مِنْ أَمْرِ اللَّهِ، فَإِلَى مَنْ تُوصِي بِي، وَمَا تَأْمُرُنِي؟

قَالَ: أَيْ بُنَيَّ، وَاللَّهِ مَا أَعْلَمُ أَحَدًا اليَوْمَ عَلَى مَا كُنْتُ عَلَيْهِ، لقَدْ هَلَكَ النَّاسُ وَبَدَّلُوا وَترَكُوا أَكْثَرَ مَا كَانُوا عَلَيْهِ، إِلَّا رَجُلًا بِالمَوْصِلِ (مدينة في العراق)، وَهُوَ فُلَانٌ، فَهُوَ عَلَى مَا كُنْتُ عَلَيْهِ، فَارحل إليه. قَالَ سَلْمَانُ: فَلما مات، لَحِقْتُ بِصَاحِبِ المَوْصِلِ فَقُلْتُ لَهُ: يَا فُلَانُ، إِنَّ فُلَانًا أَوْصَانِي عِنْدَ مَوْتهِ أَنْ أَلْحَقَ بِكَ، وَأَخْبَرَنِي أَنَّكَ عَلَى أَمْرِهِ. قَالَ: فَقَالَ لِي: أَقِمْ عِنْدِي فَأَقَمْتُ عِنْدَهُ، فَوَجَدْتُهُ خَيْرَ رَجُلٍ عَلَى أَمْرِ صَاحِبِهِ، فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ مَاتَ، فَلَمَّا حَضَرَتْهُ الوَفَاةُ، قُلْتُ لَهُ: يَا فُلَانُ، إِنَّ فُلَانًا أَوْصَى بِي إِلَيْكَ، وَأَمَرَنِي بِاللُّحُوقِ بِكَ، وَقَدْ حَضَرَكَ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مَا تَرَى، فَإِلَى مَنْ تُوصِي بِي، وَمَا تَأْمُرُنِي؟ قَالَ: أَيْ بُنَيَّ، وَاللَّهِ مَا أَعْلَمُ رَجُلًا عَلَى مِثْلِ مَا كُنَّا عَلَيْهِ إِلَّا رَجُلًا بِنَصِيبينَ (مدينةٌ عامرةٌ من بلاد الجزيرة العربية تمر بها القوافل)، وَهُوَ فُلَانٌ، فَالْحَقْ بِهِ.

قَالَ سَلْمَانُ: فَلَمَّا مَاتَ لَحِقْتُ بِصاحِبِ نَصِيبينَ، فَجِئْتُهُ فَأَخْبَرتُهُ خَبَرِي، وَمَا أَمَرَنِي بِهِ صَاحِبِي، قَالَ: فَأَقِمْ عِنْدِي. فَأَقَمْتُ عِنْدَهُ، فَوَجَدْتُهُ عَلَى أَمْرِ صَاحِبَيْهِ، فَأَقَمْتُ مَعَ خَيْرِ رَجُلٍ، فَوَاللَّهِ مَا لَبِثَ أَنْ نَزَلَ بِهِ المَوْتُ، فَلَمَّا حُضِرَ، قُلْتُ لَهُ: يَا فُلَانُ، إِنَّ فُلَانًا كَانَ أَوْصَى بِي إِلَى فُلَانٍ، ثُمَّ أَوْصَى بِي فُلَانٌ إِلَيْكَ، فَإِلَى مَنْ تُوصِي بِي، وَمَا تَأْمُرُنِي؟ قَالَ: أَيْ بُنَيَّ، وَاللَّهِ مَا نَعْلَمُ أَحَدًا بَقِيَ عَلَى أَمْرِنَا آمُرُكَ أَنْ تَأْتِيَهُ إِلَّا رَجُلًا بِعَمُّورِيَّةَ (مدينة في تركيا)، فَإِنَّهُ عَلَى مِثْلِ مَا نَحْنُ عَلَيْهِ، فَإِنْ أَحْبَبْتَ فَأْتِهِ، قَالَ: فَإِنَّهُ عَلَى أَمْرِنَا.


قَالَ سَلْمَانُ: فَلَمَّا مَاتَ لَحِقْتُ بِصَاحِبِ عَمُّورِيَّةَ، وَأَخْبَرتُهُ خَبَرِي، فَقَالَ: أَقِمْ عِنْدِي، فَأَقَمْتُ مَعَ رَجُلٍ عَلَى هَدْيِ أَصْحَابِهِ وَأَمْرِهِمْ، قَالَ سَلْمَانُ: وَعملت وكسبت حَتَّى كَانَ لِي بَقَرَاتٌ وَغُنَيْمَةٌ، قَالَ: ثُمَّ نَزَلَ بِهِ أَمْرُ اللَّهِ، فَلَمَّا حُضِرَ قُلْتُ لَهُ: يَا فُلَانُ، إِنِّي كُنْتُ مَعَ فُلَانٍ، فَأَوْصَى بِي فُلَانٌ إِلَى فُلَانٍ، وَأَوْصَى بِي فُلَانٌ إِلَى فُلَانٍ، ثُمَّ أَوْصَى بِي فُلَانٌ إِلَيْكَ، فَإِلَى مَنْ تُوصِي بِي؟ وَمَا تَأْمُرُنِي؟

قَالَ: أَيْ بُنَيَّ، وَاللَّهِ مَا أَعْلَمُهُ أَصْبَحَ عَلَى مَا كُنَّا عَلَيْهِ أَحَد مِنَ النَّاسِ آمُرُكَ أَنْ تَأْتِيَهُ، وَلَكِنَّهُ قَدْ أَظَلَّكَ زَمَانُ نَبِيٍّ هُوَ مَبْعُوثٌ بِدِينِ إِبْرَاهِيمَ يَخْرُجُ بِأَرْضِ العَرَبِ، مُهَاجِرًا إِلَى أَرْضٍ بَيْنَ حَرَّتَيْنِ (الحَرَّة: أرض بظاهر المدينة بها حِجَارة سُودٌ كثيرة) بَيْنَهُمَا نَخْلٌ، بِهِ عَلَامَاتٌ لَا تَخْفَى:

يَأْكُلُ الهَدِيَّةَ (كان -صلى اللَّه عليه وسلم- إذا أهدِيَت إليهِ هدية فقبِلَها، كافَأَ عليها بأكثرَ منها)، وَلَا يَأْكُلُ الصَّدَقَةَ (قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إن الصدقة لا تنبغي لآل محمد)، بَيْنَ كَتِفَيْهِ خَاتَمُ النُّبُوَّةِ (تفصيله هنا)، فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَلْحَقَ بِتِلْكَ البِلَادِ فَافْعَلْ.


قَالَ سَلْمَانُ: ثُمَّ مَاتَ، فَبقيت بِعَمُّورِيَّةَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ أبقى، ثُمَّ مَرَّ بِي نَفَرٌ مِنْ العرب تجارا، فَقُلْتُ لَهُمْ: تَحْمِلُونِي إِلَى أَرْضِ العَرَبِ، وَأُعْطِيكُمْ بَقَرَاتِي هَذِهِ وَغُنَيْمَتِي هَذِهِ؟

قَالُوا: نَعَمْ، فَأَعْطَيْتُهُمُوهَا وَحَمَلُونِي، حَتَّى إِذَا قَدِمُوا بِي وَادِي القُرَى ( وادٍ بين المدينة والشام )، ظَلَمُونِي فَبَاعُونِي إلى رَجُلٍ مِنْ يَهُودَ، فكُنْتُ عِنْدَهُ عبدًا، وَرَأَيْتُ النَّخْلَ، وَرَجَوْتُ أَنْ تَكُونَ البَلَدَ الذِي وَصَفَ لِي صَاحِبِي، فَبَيْنَمَا أَنَا عِنْدَهُ، قَدِمَ عَلَيْهِ ابنُ عَمٍّ لَهُ مِنَ المَدِينَةِ مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ فَاشتراني مِنْهُ، وأخذني معه إِلَى المَدِينَةِ، فَوَاللَّهِ مَا هُوَ إِلَّا أَنْ رَأَيْتُهَا فَعَرَفْتُهَا من وصف صَاحِبِي، فَأَقَمْتُ بِهَا وَبَعَثَ اللَّهُ رَسُولَهُ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَأَقَامَ بِمَكَّةَ مَا أَقَامَ لَا أَسْمَعُ لَهُ بِذِكْرٍ مَعَ مَا أَنَا فِيهِ مِنْ شُغْلِ الرِّقِّ والعبودية، ثُمَّ هَاجَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى المَدِينَةِ، فَوَاللَّهِ إِنِّي لَفِي نخل لِسَيِّدِي أَعْمَلُ فِيهِ بَعْضَ العَمَلِ، وَسَيِّدِي جَالِسٌ، إِذَا أَقْبَلَ ابنُ عَمٍّ له حَتَّى وَقَفَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: فُلَانُ، قَاتَلَ اللَّهُ بَنِي قَيْلَةَ (يقصد الأنصار)، وَاللَّهِ إِنَّهُمُ الْآنَ لَمُجْتَمِعُونَ بِقُبَاءَ عَلَى رَجُلٍ قَدِمَ عَلَيْهِمْ مِنْ مَكَّةَ اليَوْمَ، يَزْعُمُونَ أَنَّهُ نَبِيٌّ.

قَالَ سَلْمَانُ: فَلَمَّا سَمِعْتُهَا ارتعدت ، حَتَّى ظَنَنْتُ سَأَسْقُطُ عَلَى سَيِّدِي، وَنَزَلْتُ عَنِ النَّخْلَةِ، فَجَعَلْتُ أَقُولُ لِابنِ عَمِّهِ ذَلِكَ: مَاذَا تَقُولُ؟ مَاذَا تُقُولُ؟ .

قَالَ سَلْمَانُ: فَغَضِبَ سَيِّدِي فَلَكَمَنِي لَكْمَةً شَدِيدَةً، ثُمَّ قَالَ: مَا لَكَ وَلهَذَا! اذهب إلى عَمَلِكَ. قَالَ سَلْمَانُ قُلْتُ: لَا شَيْءَ، إِنَّمَا أَرَدْتُ أَنْ أَتبين ما قَالَ. قَالَ سَلْمَانُ: وَقَدْ كَانَ عِنْدِي شَيْءٌ قَدْ جَمَعْتُهُ، فَلَمَّا أَمْسَيْتُ أَخَذْتُهُ ثُمَّ ذَهَبْتُ بِهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَهُوَ بِقُبَاءَ، فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ، فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّهُ قَدْ بَلَغَنِي أَنَّكَ رَجُلٌ صَالِحٌ، وَمَعَكَ أَصْحَابٌ لَكَ غُرَبَاءُ ذَوُو حَاجَةٍ، وَهَذَا شَيْءٌ كَانَ عِنْدِي لِلصَّدَقَةِ، فَرَأَيْتُكُمْ أَحَقَّ بِهِ مِنْ غَيْرِكُمْ. قَالَ: فَقَرَّبْتُهُ إِلَيْهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِأَصْحَابِهِ: "كلُوا"، وَأَمْسَكَ يَدَهُ فَلَمْ يَأْكُلْ، قَالَ سَلْمَانُ: فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: هَذِهِ وَاحِدَةٌ، ثُمَّ انْصَرَفْتُ عَنْهُ فَجَمَعْتُ شَيْئًا، وَتَحَوَّلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى المَدِينَةِ، ثُمَّ جِئْتُهُ بِهِ، فَقُلْتُ: إِنِّي رَأَيْتُكَ لَا تَأْكُلُ الصَّدَقَةَ، وَهَذِهِ هَدِيَّةٌ أَكْرَمْتُكَ بِهَا. قَالَ: فَأَكَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنْهَا، وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ فَأَكَلُوا مَعَهُ، قَالَ: فَقُلْتُ في نَفْسِي: هَاتَانِ اثْنَتَانِ،

 قَالَ: ثُمَّ جِئْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَهُوَ بِبَقِيعِ الغَرْقَدِ (مكان قبور أهل المدينة)، قَالَ: وَقَدْ تَبعَ جَنَازَةً مِنْ أَصْحَابِهِ، عَلَيْهِ شَمْلَتَانِ (هو كِسَاءٌ يُتغطى به ويُتَلفف فيه) لَهُ، وَهُوَ جَالِسٌ فَي أَصْحَابِهِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، ثُمَّ اسْتَدَرْتُ أَنْظُرُ إِلَى ظَهْرِهِ، هَلْ أَرَى الخَاتَمَ الذِي وَصَفَ لِي صَاحِبِي؟

فَلَمَّا رَآنِي رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أنظر إلى ظهره، عَرَفَ أَنِّي أَتثبت من شَيْءٍ وُصِفَ لِي، قَالَ: فَأَلقى رِدَاءَهُ عَنْ ظَهْرِهِ، فنَظَرْتُ إِلَى الخَاتَمِ فعرَفْتُهُ، فَانَكَبَبْتُ عَلَيْهِ أُقَبِّلُهُ وَأَبْكِي، وقَصَصْتُ عَلَيْهِ قصتي فَأَعْجَبَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَنْ يَسْمَعَ ذَلِكَ أَصْحَاُبهُ.

ثُمَّ شَغَلَ سَلْمَانَ الرِّقُّ حَتَّى فَاتَهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- غزوة بَدْرٌ وَغزوة أُحُدٌ.

قَالَ سَلْمَانُ: ثُمَّ قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "كَاتِبْ  يَا سَلْمَانُ" والمكاتبة أن يتفق الرجل مع عَبْده على مالٍ يؤدِّيه إليه ، فإذا أدَّاه صارَ حُرًّا، يقول سلمان كَاتَبْتُ سيدي عَلَى ثَلَاثِ مِئَةِ نَخْلَةٍ أُحْيِيهَا لَهُ أي يزرعها له وَبِأَرْبَعِينَ أُوقِيَّةً (الأوقية هي أربعون دِرْهمًا.)، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِأَصْحَابِهِ: "أَعِينُوا أَخَاكُمْ"، فَأَعَانُونِي بِالنَّخْلِ: الرَّجُلُ بِثَلَاثِينَ نخلة صغيره، وَالرَّجُلُ بِعِشْرِينَ، وَالرَّجُلُ بِخَمْسَ عَشْرَةَ، وَالرَّجُلُ بِعَشْرَةٍ -يَعْنِي: الرَّجُلُ بِقَدْرِ مَا عِنْدَهُ- حَتَّى اجْتَمَعَتْ لِي ثَلَاثُ مِئَةِ نخلة صغيرة، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "اذْهَبْ يَا سَلْمَانُ فَاحفر لَهَا، فَإِذَا فَرَغْتَ فَأْتني أَكُونُ أَنَا أَضَعُهَا بِيَدِي".


قَالَ سَلْمَانُ: فَحفرت لَهَا، وَأَعَانَنِي أَصْحَابِي، حَتَّى إِذَا فَرَغْتُ مِنْهَا جِئْتُهُ فَأَخْبَرْتُهُ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مَعِي إِلَيْهَا فَجَعَلْنَا نُقَرِّبُ لَهُ النخل الصغير وَيَضَعُهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِيَدِهِ، فَوَالذِي نَفْسُ سَلْمَانَ بِيَدِهِ، مَا مَاتَتْ مِنْهَا نخلة وَاحِدَةٌ، فَأَدَّيْتُ النَّخْلَ، وَبَقِيَ عَلَيَّ المَالُ، فَأُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِمِثْلِ بَيْضَةِ الدَّجَاجَةِ مِنْ ذَهَبٍ مِنْ بَعْضِ الْمَغَازِي، فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَا فعلَ الفَارِسِيُّ المُكَاتَبُ؟ "، قَالَ: فَدُعِيتُ لَهُ، فَقَالَ: "خُذْ هَذِهِ فَأَدِّ بِهَا مَا عَلَيْكَ يَا سَلْمَانُ"، فَقُلْتُ: وَأَيْنَ تَقَعُ هَذِهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ مِمَّا عَلَيَّ؟ يعني أنها أقل كثيرا مما عليه 

قَالَ رسول الله: "خُذْهَا، فَإِنَّ اللَّهَ سَيُؤَدِّي بِهَا عَنْكَ"، قَالَ سَلْمَانُ: فَأَخَذْتُهَا فَوَزَنْتُ لَهُمْ مِنْهَا -وَالذِي نَفْسُ سَلْمَانَ بِيَدِهِ- أَرْبَعِينَ أُوقِيَّة، فَأَوْفَيْتُهُمْ حَقَّهُمْ وَعَتَقْتُ، فَشَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- الخَنْدَقَ، ثُمَّ لَمْ يَفُتْنِي مَعَهُ مَشْهَدٌ.

رضي الله عن سلمان وعن الصحابة أجمعين ..


الاثنين، 11 سبتمبر 2023

وصول النبي صلى الله عليه وسلم إلى قباء واستقبال الأنصار له -قصة الهجرة الحلقة السادسة-

 قَبْلَ قُدُومِ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- المَدِينَةَ، لَقِيَ الزُّبَيْرَ بنَ العَوَّامِ -رضي اللَّه عنه-، فِي رَكْبٍ مِنَ المُسْلِمِينَ، كَانُوا تُجَارًا راجعين في قافلة مِنَ الشَّامِ، فكَسَا الزُّبَيْرُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَأَبَا بَكْرٍ ثِيَابًا بَيَاض.


نُزُولُ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وصَاحِبِهِ أَبِي بَكْرٍ -رضي اللَّه عنه- فِي قُبَاءَ

قُبَاء: بضم القاف، سُمِّيت بذلك لوجودِ بِئْرٍ هناكَ عُرفت القرية بها، وهي مساكن بني عمرِو بنِ عوفٍ من الأنصار، وهي قرية على بعد ميلينِ من المدينةِ.

وَكَانَ الأَنْصَارُ لَمَّا بَلَغَهُمْ مَخْرَجُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنْ مَكَّةَ مُهَاجِرًا إِلَى المَدِينَةِ، يَخْرُجُونَ كُلَّ يَوْمٍ إِذَا صَلُّوا الصُّبْحَ إِلَى الحَرَّةِ ( أرضٌ بظاهرِ المدينةِ بها حجارة سُود كثيرة.) يَنْتَظِرُونَهُ أَوَّلَ النَّهَارِ، فَإِذَا اشْتَدَّ الحَرُّ رَجَعُوا إِلَى مَنَازِلهِمْ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الِاثْنَيْنِ الثَّانِي عَشَرَ مِنْ رَبِيعِ الأَوَّلِ سَنَةَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ مِنَ البِعْثَةِ -وَهِيَ السَّنَةُ الأُولَى مِنَ الهِجْرَةِ، المُوَافِق الثَّالِثِ وَالعِشْرِينَ مِنْ سِبْتَمْبَرَ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَعِشْرِينَ وَسِتُمِائَةٍ مِنَ المِيلَادِ- خَرَجُوا عَلَى عَادَتِهِمْ، فَلَمَّا حَمِيَ الحَرُّ رَجَعُوا،

 فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى بُيُويهِمْ طَلع رَجُلٌ مِنْ يَهُودَ إلى مكان عالٍ في حصن لهم لِأَمْرٍ يَنْظُرُ إِلَيْهِ، فَرَأَى رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَأَصْحَابَهُ يلبسون ثيابا بيض، فَلَمْ يَمْلِكِ اليَهُودِيُّ أَنْ صَرَخَ بِأَعْلَى صَوْتِهِ: يَا مَعْشَرَ العَرَبِ ، هَذَا جَدُّكُمْ (جدكم: بفتح الجيم أي حَظكم، وصاحبُ دَوْلَتكم الذي تتوقَّعُونه.) الذِي تَنْتَظِرُونَ، فَثَارَ المُسْلِمُونَ إِلَى السِّلَاحِ، فتَلَقَّوْا رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِظَهْرِ الحَرَّةِ، وَسُمْعَتِ الرَّجَّةُ (أي الحركة الشديدة) وَالتَّكْبِيرُ فِي بَنِي عَمْرِو بنِ عَوْفٍ، وَكَبّرَ المُسْلِمُونَ فَرَحًا بِقُدُومِ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَخَرَجُوا لِلِقَائِهِ، فَتَلَقَّوْهُ وَحَيَّوْهُ بِتَحِيَّةِ النُّبُوَّةِ، 

فَجعل مَنْ جَاءَ مِنَ الأَنْصَارِ، مِمَّنْ لَمْ يَرَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يظنون أن أبا بكر هو الرسول، حَتَّى أتت الشَّمْسُ على رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَأَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ حَتَّى ظَلَّلَ عَلَيْهِ بِرِدَائِهِ، فَعَرَفَ النَّاسُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-عِنْدَ ذَلِكَ، فتجمعوا حَوْلَهُ، وَالسَّكِينَةُ تَغْشَاهُ، وَالوَحْيُ يَنْزِلُ عَلَيْهِ: {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} (سورة التحريم).

لم يتعرف الأنصار على رسول الله في أول الأمر لأنه -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يَكُن مَلِكًا، ولا يلبسُ الحَرِير، ولا تلوحُ عليه شاراتُ المُلْك، ولا يتألقُ على جبينه التَّاج، بل كان عَبْدًا للَّه مُتَواضعًا، يَلْبَسُ ما يلبسُ الناس، ويأكلُ ما يأكلونَ، ويَجُوع إن جاعوا، ويشْبَع إن شَبِعوا عليه الصلاة والسلام.


* مَنْزِلُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَصَاحِبِهِ:

نزلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلَى كُلْثُومِ بنِ الهِدْمِ أَحَدِ بَنِي عَمْرِو بنِ عَوْفٍ وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ عَزَبًا لَا أَهْلَ له .أَمَّا أَبُو بَكْرٍ -رضي اللَّه عنه-، فنَزَلَ عَلَى خَارِجَةَ بنِ زَيْدٍ، أَخِي بَنِي الحَارِثِ بنِ الخَزْرَجِ 

*فَضْلُ وَمَكَانَةُ المُهَاجِرِينَ



 كَانَتِ الهِجْرَةُ النُّقْطَةَ الفَاصِلَةَ فِي التَّارِيخِ بَيْنَ عَهْدٍ مُظْلِمٍ مُضْطَرِبٍ تُحْتَضَرُ فِيهِ الحَضَارَةُ، وَعَهْدٍ زَاهِرٍ سَعِيدٍ وُلدَتْ فِيهِ حَضَارَةٌ جَدِيدَةٌ أَضَاءَتْ لِلْعَالَمِ طَرِيقَ المَجْدِ وَالفَلَاحِ، وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَانَ المُهَاجِرُونَ الذِينَ تركُوا دُورَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ، وَبِلَادَهُمْ وَأَوْطَانَهُمْ، وَخَرَجُوا مُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَفْضَلَ المُسْلِمِينَ، وَأَعْلَاهُمْ مَنْزِلَةً، وَأَكْثرهُمْ ثَوَابًا.

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} (سورة الحشر).

قَالَ الإِمَامُ البَغَوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: خَرَجُوا إِلَى دَارِ الهِجْرَةِ طَلَبًا لِرِضَا اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ .

وَقَالَ قَتَادَةُ: هَؤُلَاءَ المُهَاجِرِينَ الذِينَ تركُوا الدِّيَارَ وَالأَمْوَالَ وَالعَشَائِرَ وَخَرَجُوا حُبًّا للَّهِ وَلرَسُولهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَاخْتَارُوا الإِسْلَامَ برغم ما عانوه مِنْ شِدَّهٍ، حَتَّى ذُكِرَ لَنَا أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ يربط الحَجَرَ عَلَى بَطْنِهِ مِنَ الجُوعِ، وَكَانَ الرَّجُلُ لا يملك ما يحتمي به من البرد في الشتاء.


* هِجْرَةُ عَلِيِّ بنِ أَبِي طَالِبٍ -رضي اللَّه عنه-:

أَمَّا عَلِيُّ بنُ أَبِي طَالِبٍ -رضي اللَّه عنه-، فَقَدْ أَقَامَ بِمَكَّةَ ثَلَاثَ لَيِالٍ وَأَيَّامِهَا، حَتَّى أَدَّى عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- الوَدَائِعَ التِي كَانَتْ عِنْدَهُ لِلنَّاسِ، ثُمَّ لَحِقَ بِرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَأَدْرَكَهُ فِي قُبَاءَ، فنَزَلَ مَعَهُ عند كُلْثُومِ بنِ الهِدْمِ -رضي اللَّه عنه-.


* هِجْرَةُ صُهَيْبٍ الرُّومِيِّ -رضي اللَّه عنه-:

لَمَّا أَرَادَ صُهَيْبُ بنُ سِنَانٍ الرُّومِيُّ -رضي اللَّه عنه- الهِجْرَةَ مِنْ مَكَّةَ إِلَى المَدِينَةِ، صَدَّهُ نَاسٌ مِنْ كُفَّارِ قُرَيْشٍ، قَالُوا له: أَتَيْتَنَا صُعْلُوكًا  أي فقيرا حَقِيرًا، فكَثُرَ مَالُكَ عِنْدَنَا، وَبَلَغْتَ الذِي بَلَغْتَ، ثُمَّ تُرِيدُ أَنْ تَخْرُجَ بِمَالِكَ وَنَفْسِكَ، وَاللَّهِ لَا يَكُونُ ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُمْ صهَيْبٌ -رضي اللَّه عنه-: أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلْتُ لَكُمْ مَالِي أَتُخْلُونَ سَبِيلِي؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: أُشْهِدُكُمْ أَنِّي جَعَلْتُ لَكُمْ مَالِي.

قَالَ صُهَيْبٌ -رضي اللَّه عنه-: وَخَرَجْتُ حَتَّى قَدِمْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- في قُبُاءَ، فَلَمَّا رَآنِي قَالَ: "يَا أَبَا يَحْيَى! رَبِحَ البَيْعُ" ثَلَاثًا، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا سَبَقَنِي إِلَيْكَ أَحَدٌ، وَمَا أَخْبَرَكَ إِلَّا جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ.

وَفيهِ نَزَل قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} (سورة البقرة).

وَبَيْنَمَا الرَّسُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي قُبَاءَ، قَدِمَ عَلَيْهِ سَلْمَانُ الفَارِسِيُّ -رضي اللَّه عنه- الذي سنتعرف على قصة إسلامه العجيبة في الحلقة القادمة إن شاء الله.



السبت، 26 أغسطس 2023

أم معبد الخزاعية تصف لنا رسول الله كأننا نراه -قصة الهجرة الحلقة الخامسة-

وصف الرسول كأنك تراه 

 قِصَّةُ أُمِّ مَعْبَدٍ الخُزَاعِيَّةُ:

أَكْمَلَ الرَّسُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم- طَرِيقَهُ إِلَى المَدِينَةِ وَمَعَهُ صَاحِبُهُ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ -رضي اللَّه عنه- وَعَامِرُ بنُ فُهَيْرَةَ -رضي اللَّه عنه-، وَالدَّلِيلُ عَبْدُ اللَّهِ بنُ أُرَيْقِطٍ، وَفِي الطَّرِيقِ مَرُّوا عَلَى خَيْمَةِ أَمٍّ مَعْبَدٍ الخُزَاعِيَّةِ،

 وَكَانَ مَنْزِلُهَا بِقُدَيْدٍ (مكان بين مكة والمدينة)، وَكَانَتْ امْرَأَةً كهلة ولكنها قوية في نفسها وجسمها تحدث من مَرَّ بها من الناس وكانت تجلس  بِفِنَاءِ الخَيْمَةِ، ثُمَّ تَسْقِي وَتُطْعِمُ مَنْ مَرَّ بِهَا، 

فَسَأَلَاهَا: لَحْمًا وَتَمْرًا لِيَشْتَرُوا مِنْهَا، فَلَمْ يَجْدُوا عِنْدَهَا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، وَكَانَ قومها قد نفد زادهم وأصابهم الجَدْبُ والقحط، 

فنَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى شَاةٍ فِي جَانِبِ الخَيْمَةِ، فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَا هَذِهِ الشَّاةُ يَا أُمَّ مَعْبَدٍ؟ "، قَالَتْ: شَاةٌ خَلَّفَهَا الجَهْدُ عَنِ الغَنَمِ (أي أنها ضعيفة لا تقوى على الخروج للرعي مع باقي الغنم)، 

قَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "هَلْ بِهَا مِنْ لَبَنٍ؟ "، قَالَتْ: هِيَ أَجْهَدُ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أَتأْذَنِينَ لِي أَنْ أَحْلِبَهَا؟ "، قَالَتْ: إِنْ رَأَيْتَ بِهَا حَلَبًا، فَاحْلِبْهَا،

 فَدَعَا بِهَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَمَسَحَ بِيَدِهِ ضَرْعَهَا، وَسَمَّى اللَّهَ تَعَالَى، وَدَعَا لَهَا فِي شَاتِهَا، وطلب رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم إناء- فَحَلَبَ فِيهِ لَبَنًا سَائِلًا كثِيرًا.  حَتَّى امتلأ ثُمَّ سَقَاهَا حَتَّى رَوِيَتْ، وَسَقَى أَصْحَابَهُ حَتَّى رَوُوا، وَشَرِبَ آخِرَهُمْ حَتَّى ارتووا جميعا، ثُمَّ حَلَبَ فِيهِ ثَانِيَةً حَتَّى مَلأَ الإِنَاءَ، ثُمَّ تركه عِنْدَهَا، وَارْتَحَلُوا عَنْهَا.

وبعد قليل جَاءَ زَوْجُهَا أَبُو مَعْبَدٍ، يَسُوقُ أَعْنُزًا هزيلة تتمايل من ضعفها،  فَلَمَّا رَأَى أَبُو مَعْبَدٍ اللَّبَنَ عَجِبَ، فَقَالَ: مِنْ أَيْنَ لَكِ هَذَا يَا أُمَّ مَعْبَدٍ؟ وَالمرعى بعيد، وَلَا حَلُوبَ فِي البَيْتِ؟

قَالَتْ: لَا وَاللَّهِ إِلَّا أَنَّهُ مَرَّ بِنَا رَجُلٌ مُبَارَكٌ مِنْ حَالِهِ كَذَا وَكَذَا، فَقَالَ: صِفِيهِ لِي يَا أُمَّ مَعْبَدٍ، فَقَالَتْ:

 رَأَيْتُ رَجُلًا ظَاهِرَ الوَضَاءَةِ (هي الحُسن والبهجة) أبلَجَ الوجهِ (أي مُشرِقَ الوجه)،لم تَعِبه نُحلَة (أي نُحول الجسم) ولم تُزرِ به صُقلَة (أنه ليس بِناحِلٍ ولا سمين)،

وسيمٌ قسيم (أي حسن وضيء)، في عينيه دَعَج (شدَّة سوادِ العينِ في شِدَّةِ بياضها)، وفي أشفاره وَطَف (طويل شعر العين)، 

وفي صوته صحَل (بحَّة و حُسن)، و في عنقه سَطع (طول)،

وفي لحيته كثاثة (كثرة شعر)، أزَجُّ أقرَن (حاجباه طويلان و مقوَّسان و مُتَّصِلان)، 

إن صَمَتَ فعليه الوقار، و إن تَكلم سما و علاهُ البهاء،  أجمل الناس و أبهاهم من بعيد، وأجلاهم و أحسنهم من قريب، 

حلوُ المنطق أي حلو الكلام، فصل لا نذْر ولا هذَر (كلامه واضح وظاهربَيِّن وسط ليس بالقليل ولا بالكثير)،

 كأنَّ منطقه خرزات نظم يتحَدَّرن (أي كلامه متصل ومتناسق كأنه درر متتابعة)، رَبعة (ليس بالطويل البائن ولا بالقصير)، لا يأس من طول، ولا تقتَحِمُه عين من قِصر، غُصن بين غصين، فهو أنضَرُ الثلاثة منظرًا، وأحسنهم قَدرًا، (النَّضَارَةُ: هي حُسن الوجه، والبريق)

لَهُ رُفَقَاءُ يَحُفُّونَ (يحيطون به) بِهِ، إِنْ قَالَ سَمِعُوا لِقَوْلهِ، وَإِنْ أَمَرَ تَبَادَرُوا إِلَى أَمْرِهِ، مَحْفُودٌ مَحْشُودٌ (يَخْدِمه أصحابه ويُعظمونه ويُسرعُون في طاعته)، لَا عَابِسَ (العابس هو مُقَطِّب الوجه)، وَلَا مُفَنِّدَ (المفند هوالذي لا فائدةَ من كلامه لكِبْرٍ أصَابه).

فَقَالَ أَبُو مَعْبَدٍ: هَذَا وَاللَّهِ صَاحِبُ قُرَيْشٍ الذِي ذُكِرَ لَنَا مِنْ أَمْرِهِ مَا ذُكِرَ، وَلَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَصْحَبَهُ، وَلَأَفْعَلَنَّ إِنْ وَجَدْتُ إِلَى ذَلِكَ سَبِيلًا.

صلى الله عليك يا سيدي يا رسول الله 

نكمل معا في الحلقة القادمة إن شاء طريق الهجرة والوصول إلى قباء ودخول المدينة تابعونا بارك الله فيكم