الأربعاء، 31 مايو 2023

أول من هاجر من الصحابة رضي الله عنهم ومحنة ام سلمة رضي الله عنها

أول من هاجر من الصحابة رضي الله عنهم:


كانت أُمُّ سَلَمَةَ واسْمُهَا هِنْدُ بِنْتُ أَبِي أُمَيَّةَ بنِ المُغِيرَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا هي أول امرأة هاجرت إلى المدينة وقد تعرضت لمحنة كبيرة.

* مِحْنَةُ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا:

وَلْنَتْرُكْ أُمَّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا تَرْوِي لَنَا قِصَّةَ هِجْرَتِهَا مَعَ زَوْجِهَا وَابْنِهَا -رضي اللَّه عنهم- أَجْمَعِينَ، تَقُولُ أُمُّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: لَمَّا أَجْمَعَ أَبُو سَلَمَةَ الخُرُوجَ إِلَى المَدِينَةِ جهز بَعِيرَهُ ، ثُمَّ حَمَلَنِي عَلَيْهِ، وَحَمَلَ مَعِي ابْنِي سَلَمَةَ بنَ أَبِي سَلَمَةَ فِي حِجْرِي، ثُمَّ خَرَجَ بِي يَقُودُ بِي بَعِيرَهُ، فَلَمَّا رَأَتْهُ رِجَالُ بَنِي المُغِيرَةِ بنِ عَبْدِ اللَّهِ بنِ عُمَرَ بنِ مَخْزُومٍ (أهلها) قَامُوا إِلَيْهِ، فَقَالُوا: هَذِهِ نَفْسُكَ غَلَبْتَنَا عَلَيْهَا، أَرَأَيْتَ زوجتك هَذِهِ، عَلَامَ نَتْرُكُكَ تَسِيرُ بِهَا فِي البِلَادِ؟ قَالَتْ: فنَزَعُوا حبل البَعِيرِ مِنْ يَدِهِ، فَأَخَذُونِي مِنْهُ، قَالَتْ: وَغَضِبَ عِنْدَ ذَلِكَ بَنُو عَبْدِ الأَسَدِ، أهل أَبِي سَلَمَةَ، فَقَالُوا: لَا وَاللَّهِ، لَا نَتْرُكُ ابْنَنَا عِنْدَهَا إِذْ نَزَعْتُمُوهَا مِن زوجها، قَالَتْ: فتَجَاذَبُوا ابْنِي سَلَمَةَ بَيْنَهُمْ، حَتَّى خَلَعُوا يَدَهُ، وَأخذه بَنُو عَبْدِ الأَسَدِ،

وَحبَسَنِي بَنُو المُغِيرَةِ عِنْدَهُمْ، وَانْطَلَقَ زَوْجِي أَبُو سَلَمَةَ إِلَى المَدِينَةِ، قَالَتْ: فَفُرِّقَ بَيْنِي وَبَيْنَ زَوْجِي وَبَيْنَ ابْنِي، قَالَتْ: فكُنْتُ أَخْرُجُ كُلَّ صباح فَأَجْلِسُ بِالأَبْطَحِ (وادي مكة)، فَمَا أَزَالُ أَبْكِي، حَتَّى أُمْسِي، سَنَةٍ أَوْ قَرِيبًا مِنْهَا، حَتَّى مَرَّ بِي رَجُلٌ مِنْ بَنِي عَمِّي، أَحَدِ بَنِي المُغِيرَةِ، فَرَأَى مَا بِي، فَرَحِمَنِي، فَقَالَ لِبَنِي المُغِيرَةِ: أَلَا ترحمون هَذِهِ المِسْكِينَةِ؟ فَرَّقْتُمْ بَيْنَهَا وَبَيْنَ زَوْجِهَا وَبَيْنَ وَلَدِهَا، قَالَتْ: فَقَالُوا لِي: الْحَقِي بِزَوْجِكِ إِنْ شِئْتِ، قَالَتْ: وَرَدَّ بَنُو عَبْدِ الأَسَدِ إِلَيَّ عِنْدَ ذَلِكَ ابْنِي، قَالَتْ: فَارْتَحَلْتُ بَعِيرِي، ثُمَّ أَخَذْتُ ابْنِي فَوَضَعْتُهُ فِي حِجْرِي، ثُمَّ خَرَجْتُ أُرِيدُ زَوْجِي بِالمَدِينَةِ، قَالَتْ: وَمَا مَعِي أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ،
 فَقُلْتُ: أَتَبْلَّغُ بِمَنْ لَقِيتُ حَتَّى أصل إلى زَوْجِي، حَتَّى إِذَا كُنْتُ بِالتَّنْعِيمِ (مكان بمكة) لَقِيتُ عُثْمَانَ بنَ طَلْحَةَ بنِ أَبِي طَلْحَةَ -رضي اللَّه عنه-، أَخَا بَنِي عَبْدِ الدَّارِ، وهو يومئذ مشرك فَقَالَ لِي: إِلَى أَيْنَ يَا بْنَتَ أَبِي أُمَيَّةَ؟
 فَقُلْتُ: أُرِيدُ زَوْجِي بِالمَدِينَةِ، قَالَ: أَوَ مَا مَعَكِ أَحَدٌ؟  قُلْتُ: لَا وَاللَّهِ، إِلَّا اللَّهُ وَابْنِي هَذَا، قَالَ: وَاللَّهِ مَالَكِ مِنْ مَتْرَكٍ، أي لا أتركك تسافرين بمفردك فَأَخَذَ حبل البَعِيرِ، فَانْطَلَقَ مَعِي يسرع بِي، فَوَاللَّهِ مَا صَحِبْتُ رَجُلًا مِنَ العَرَبِ قَطُّ، أَرَى أَنَّهُ كَانَ أَكْرَمَ مِنْهُ، كَانَ إِذَا بَلَغَ المَنْزِلَ (المكان الذي يستريحون فيه) أَنَاخَ البعير لأنزل ، ثُمَّ اسْتَأْخَرَ عَنِّي "أي ذهب بعيدا حتى تنزل "، حَتَّى إِذَا نَزَلْتُ اسْتَأْخَرَ بِبَعِيرِي، فَحَطَّ عَنْهُ -أَيْ الرَّحْلَ- ثُمَّ قَيَّدَهُ فِي الشَّجَرِةِ، ثُمَّ تَنَحَّى عَنِّي إِلَى شَجَرَةٍ، فنام تَحْتَهَا، فَإِذَا جاء موعد الرحيل  قَامَ إِلَى بَعِيرِي فَقَدَّمَهُ ووضع عليه الرحال، ثُمَّ اسْتَأْخَرَ عَنِّي، فَقَالَ: ارْكَبِي، فَإِذَا رَكِبْتُ وَاسْتَوَيْتُ عَلَى بَعِيرِي أَتَى فَأَخَذَ بِخِطَامِهِ "حبله"، فَقَادَهُ حَتَّى يَنْزِلَ بِي، فَلَمْ يَزَلْ يَصْنَعُ ذَلِكَ بِي حَتَّى أَقْدَمَنِي المَدِينَةَ، 
فَلَمَّا نَظَرَ إِلَى قَرْيَةِ عَمْرِو بنِ عَوْفٍ بِقُبَاءَ قَالَ: زَوْجُكِ فِي هَذِهِ القَرْيَةِ -وَكَانَ أَبُو سَلَمَةَ بِهَا نَازِلًا- فَادْخُلِيهَا عَلَى بَرَكَةِ اللَّهِ، ثُمَّ انْصَرَفَ رَاجِعًا إِلَى مَكَّةَ.

فَكَانَتْ أُمُّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا تَقُولُ: وَاللَّهِ مَا أَعْلَمُ أَهْلَ بَيْتٍ فِي الإِسْلَامِ أَصَابَهُمْ مَا أَصَابَ آلَ أَبِي سَلَمَةَ، وَمَا رَأَيْتُ صَاحِبًا قَطُّ أَكْرَمَ مِنْ عَثْمَانَ  بنِ طَلحَة .أسلَمَ عثمَانُ بن طلحَةَ -رضي اللَّه عنه- بعد الحُدَيْبِيَةِ، وهاجر إلى المدينة، ودفع إليه رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يوم فتح مكةَ مفاتيح الكعبة.

قَالَ الدُّكْتُورُ مُحَمَّدُ أَبُو شَهْبَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَإِنَّ لَنَا هُنَا لَوَقْفَةً عِنْدَ قِصَّةِ عُثْمَانَ هَذَا، فَقَدْ كَانَ يَوْمَئِذٍ كَافِرًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُسْلِمْ إِلَّا بَعْدَ الحُدَيْبِيَةِ، وَهِيَ تَشْهَدُ لِمَا ذَكَرْتُهُ مِنْ نَفَاسَةِ مَعْدَنِ العَرَبِ، وَفَضائِلِهِمْ فِي الجَاهِلِيَّةِ، وَلَا سِيَّمَا خُلُقَ المُرُوءَةِ وَالنَّجْدَةِ، وَحِمَايَةِ الضَّعِيفِ، فَقَدْ أَبَتْ عَلَيْهِ مُرُوءَتُهُ وَخُلُقُهُ العَرَبِيُّ الأَصِيلُ أَنْ يَدَعَ امْرَأَةً شَرِيفَةً تَسِيرُ وَحْدَهَا فِي هَذِهِ الصَّحْرَاءَ المُوحِشَةِ، وَإِنْ كَانَتْ عَلَى غَيْرِ دِينِهِ.

 هِجْرَةُ عَامِرِ بنِ رَبِيعَةَ وَزَوْجِهِ:

ثُمَّ كَانَ أَوَّلَ مَنْ قَدِمَ المَدِينَةَ بَعْدَ أَبِي سَلَمَةَ: عَامِرُ بنُ رَبِيعَةَ حَلِيفُ بَنِي عَدِيِّ بنِ كَعْبٍ، وَمَعَهُ امْرَأَتُهُ لَيْلَى بِنْتُ أَبِي حَثَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، 

* هِجْرَةُ بَنِي جَحْشٍ:

ثُمَّ هَاجَرَ عَبْدُ اللَّهِ بنَ جَحْشٍ حَلِيفُ بَنِي أُمَيَّةَ بنِ عَبْدِ شَمْسٍ،هاجر بِأَهْلِهِ وَبِأَخِيهِ أَبُو أَحْمَدَ عَبْدُ بنُ جَحْشٍ، وَكَانَ مَعَهُمَا مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ اللَّهِ بنِ جَحْشٍ، وَكَذَلِكَ هَاجَرَ نِسَاؤُهُمْ: زَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ، وَحَمْنَةُ بِنْتُ جَحْشٍ، وَأُمُّ حَبِيبَةَ بِنْتُ جَحْشٍ، 
فَغُلِّقَتْ دَارُ بَنِي جَحْشٍ بِسَبَبِ الهِجْرَةِ، فَمَرَّ بِهَا عُتْبَةُ بنُ رَبِيعَةَ، وَالعَبَّاسُ بنُ عَبْدِ المُطَّلِبِ، وَأَبُو جَهْلِ بنُ هِشَامٍ، وَهُمْ مُصْعِدُونَ إِلَى أَعْلَى مَكَّةَ، فنَظَرَ إِلَيْهَا عُتْبَةُ بنُ رَبِيعَةَ وقال أَصْبَحَتْ دَارُ بَنِي جَحْشٍ خَلَاءً مِنْ أَهْلِهَا، فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ لِلْعَبَّاسِ: هَذَا مِنْ عَمَلِ ابنِ أَخِيكَ هَذَا، فَرَّق جَمَاعَتَنَا، وَشَتَّتَ أَمْرَنَا، وَقَطَعَ بَيْنَنَا.

قَالَ الشَّيْخُ مُحَمَّدٌ الغَزَالِي: وَأَبُو جَهْلٍ بِهَذَا الْكَلَامِ تَبْرُزُ فِيهِ طَبَائِعُ الطُّغَاةِ كامِلَةً، فَهُمْ يُجْرِمُونَ وَيَرْمُونَ الْوِزْرَ عَلَى أَكْتَافِ غَيْرِهِمْ، وَيَقْهَرُونَ الْمُسْتَضْعَفِينَ.

* هِجْرَةُ مُصْعَبٍ، وَابنِ أُمِّ مَكْتُومٍ، وَبِلَالٍ، وَسَعْدٍ، وَعَمَّارٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ:

ثُمَّ خَرَجَ الصَّحَابَةُ -رضي اللَّه عنهم- أَرْسَالًا يَتْبَعُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، فَهَاجَرَ مُصْعَبُ بنُ عُمَيْرٍ، وَعَمْرُو بنُ أُمِّ مَكْتُومٍ، وَكَانَا يُقْرِئَانِ القُرْآنَ لِلأَنْصَارِ، وَبِلَالُ بنُ رَبَاحٍ، وَسَعْدُ بنُ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ.

* هِجْرَةُ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ وَعَيَّاشِ بنِ أَبِي رَبِيعَةَ فِي رَكْبٍ مِنَ المُسْلِمِينَ:

رَوَى الإِمَامُ البُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ وَالإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ مِنْ حَدِيثِ البَرَاءَ بنِ عَازِبٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: . . . ثُمَّ قَدِمَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ فِي عِشْرِينَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- .
 مِنْهُمْ: زَيْدَ بنَ الخَطَّابِ، وَسَعِيدَ بنَ زَيْدٍ، وَعَمْرَو بنَ سُرَاقَةَ، وَأَخَاهُ عَبْدَ اللَّهِ، وَوَاقِدَ بنَ عَبْدِ اللَّهِ، وَخَالِدَ، وَإِيَاسَ، وَعَامِرَ، وَعَاقِلَ بَنِي البُكَيْرِ، وَخُنَيْسَ بنَ حُذَافَةَ -وَكَانَ زَوْجَ حَفْصَةَ بِنْتِ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ-، وَعَيَّاشَ بنَ أَبِي رَبِيعَةَ، وَخَوْليَّ بنَ أَبِي خَوْلي، وَمَالِكَ بنَ أَبِي خَوْلي، وَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ مِنْ أَقَارِبِ عُمَرَ -رضي اللَّه عنه- وَحُلفَائِهِمْ.

وَكَانَتْ قُرَيْشٌ كُلَّمَا عَلِمَتْ بِأَحَدٍ يُرِيدُ الهِجْرَةَ آذَتْهُ، وَحَاوَلَتْ فِتْنَتَهُ أَوْ حَبْسَهُ، وَلذَلِكَ لَمْ يَكُنْ أَحَد يَجْرُؤُ عَلَى الخُرُوجِ إِلَّا خُفْيَةً.

* قِصَّةُ أَبِي جَهْلٍ مَعَ عَيَّاشٍ بن أبي ربيعة -رضي اللَّه عنه-:

 خَرَجَ أَبُو جَهْلٍ بنُ هِشَامٍ وَأَخُوهُ الحَارِثُ إِلَى عَيَّاشِ بنِ أَبِي رَبِيعَةَ -رضي اللَّه عنه-، وَكَانَ ابنَ عَمِّهِمَا وَأَخَاهُمَا لِأُمِّهِمَا، حَتَّى قَدِمَا المَدِينَةَ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لَا يَزَالُ بِمَكَّةَ، فَكَلَّمَ أَبُو جَهْلٍ عَيَّاشًا، وَقَالَ لَهُ: إِنَّ أُمَّكَ نَذَرَتْ أَنْ لَا يَمَسَّ رَأْسَهَا مِشْطٌ حَتَّى تَرَاكَ، وَلَا تَسْتَظِلَّ عَنْ شَمْسٍ حَتَّى تَرَاكَ، فَرَقَّ لَهَا، 
فَقَالَ لَهُ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ -رضي اللَّه عنه-: يَا عَيَّاشُ، إِنَّه وَاللَّهِ مَا يُرِيدُكَ القَوْمُ إِلَّا لِيَفْتِنُوكَ عَنْ دِينِكَ فَاحْذَرْهُمْ،  فَقَالَ لَهُ عَيَّاشٌ: أَبَرُّ قَسَمَ أُمِّي، وَلِي هُنَاكَ مَالٌ فَآخُذُهُ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: وَاللَّهِ إِنَّكَ لَتَعْلَمُ أَنِّي لَمِنْ أَكْثَرِ قُرَيْشٍ مَالًا، فَلَكَ نِصْفُ مَالِي، وَلَا تَذْهَبْ مَعَهُمَا، وَلَكِنَّهُ أصر أن يَخْرُجَ مَعَهُمَا،
 فَقَالَ لَهُ -رضي اللَّه عنه-:إِذْا أردت الذهاب معهما، فَخُذْ نَاقَتِي هَذِهِ، فَإِنَّهَا نَاقَةٌ نَجِيبَةٌ ذَلُولُ (لينة سهلة)، فاركبها ولا تنزل ، فَإِنْ رَابَكَ مِنَ القَوْم رَيْبٌ (أي شككت بأمرهما)، فَانْجُ عَلَيْهَا.أي أسرع بالهرب 

فَخَرَجَ عَلَيْهَا مَعَهُمَا، حَتَّى إِذَا كَانُوا في الطَّرِيقِ، قَالَ أَبُو جَهْلٍ: يَا ابْنَ أَخِي، وَاللَّهِ لَقَدِ اسْتَغْلَظْتُ بَعِيرِي هَذَا، أَفَلَا تُعْقِبَنِي (يريده أن ينزل فيركب هو الناقة) عَلَى نَاقَتِكَ هَذِهِ؟

قَالَ عَيَّاشٌ: بَلَى، فنزل عَيَّاشٌ، ونزلا أيضا ، فَلَمَّا اسْتَوَوْا بِالأَرْضِ هجموا عَلَيْهِ، فَأَوْثَقَاهُ، وَرَبَطَاهُ، ثُمَّ دَخَلَا بِهِ مَكَّةَ،  وَكَانَ دُخُولُهُمَا بِهِ مَكَّة نَهَارًا مُوثَقًا، فَصَارَا يَقُولَانِ: يَا أَهْلَ مَكَّةَ، هَكَذَا فَافْعَلُوا بِسُفَهَائِكُمْ، كَمَا فَعَلْنَا بِسَفِيهِنَا هَذَا.

* دُعَاءُ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِعَيَّاشٍ -رضي اللَّه عنه-:

وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَدْعُوا لِعَيَّاشِ بنِ أَبِي رَبِيعَةَ -رضي اللَّه عنه-، وَغَيْرِهِ مِنَ المُسْتَضْعَفِينَ مِنَ المُؤْمِنِينَ، فَقَدْ أَخْرَجَ البخاري ومسلم فِي صَحِيحَيْهِمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَقُولُ: حِينَ يَفْرَغُ مِنْ صَلَاةِ الفَجْرِ مِنَ القِرَاءَةِ، وَيُكَبِّرُ، وَيَرْفَعُ رَأْسَهُ: "سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، رَبَّنَا وَلَكَ الحَمْدُ"، ثُمَّ يَقُولُ، وَهُوَ قَائِمٌ: "اللَّهُمَّ أَنْجِ الوَلِيدَ بنَ الوَلِيدِ (أخو خالد بن الوليد)، وَسَلَمَةَ بنَ هِشَامٍ (أخو أبو جهل)، وَعَيَّاشَ بنَ أَبِي رَبِيعَةَ، وَالمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ المُؤْمِنِينَ".

وَهَكَذَا لَمْ يَمْضِ شَهْرَانِ أَوْ أَكْثَرُ عَلَى بَيْعَةِ العَقَبَةِ الثَّانِيَةِ حَتَّى لَمْ يَبْقَ بِمَكَّةَ مِنَ المُسْلِمِينَ إِلَّا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَأَبُو بَكْرٍ وَعَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَوْ مَفْتُون مَحْبُوسٌ، أَوْ مَرِيضٌ، أَوْ ضَعِيفٌ عَنِ الخُرُوجِ

 نكمل مع في الحلقة القادمة استعداد رسول الله للهجرة وتآمر قريش على قتله.

الأحد، 14 مايو 2023

خصائص المدينة المنورة والاستعداد للهجرة


*خَصَائِصَ المَدِينَةِ المُنَوَّرَةِ:

كَانَ مِنْ حِكْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي اخْتِيَارِ المَدِينَةِ دَارًا لِلْهِجْرَةِ، وَمَرْكَزًا لِلدَّعوَةِ، عَدَا مَا أَرَادَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ إِكْرَامِ أَهْلها، وَأَسْرَار لَا يَعلَمُها إِلَّا اللَّهُ أُمُورٌ، مِنْهَا:

١ - أَنَّهَا امْتَازَتْ بِتَحَصُّنٍ طَبِيعِيٍّ حَربِيٍّ، لَا تُزَاحِمُها فِي ذَلِكَ مَدِينَةٌ قَرِيبَةٌ فِي الجَزِيرَةِ، فكَانَتْ تحيط بها من الناحية الغربية ومن الناحية الشرقية مناطق تسمى حَرَّةُ وهي الأرضُ ذاتُ الحِجَارة السُّود،التي لا يصلح فيها المشي على الأقدام ولا سير الخيول والإبل ولا الجيوش وَكَانَتِ المَنْطِقَةُ الشَّمَالِيَّةُ مِنَ المَدِينَةِ، هِيَ النَّاحِيَةَ الوَحِيدَةُ المَكْشُوفَةُ (وهي المنطقة التي حصنها رسول الله بحفر الخندق كما سنعرف فيما بعد).


حرات المدينة


٢ - كَانَتِ الجِهاتُ الأُخْرَى مِنْ أَطْرَافِ المَدِينَةِ مُحَاطَةً بِأَشْجَارِ النَّخِيلِ، وَالزُّرُوعِ الكَثِيفَةِ، لَا يَمُرُّ مِنْهَا الجَيْشُ إِلَّا فِي طُرُقٍ ضَيِّقَةٍ.

٤ - كَانَ أَهْلُ المَدِينَةِ مِنَ الأوْسِ وَالخَزْرَجِ أَصْحَابَ نَخْوَةٍ وَإِبَاءٍ وعزة وَفُرُوسِيَّةٍ، وَقُوَّةٍ، وَعزيمة ، ألِفوا الحُرِّيَّةَ، وَلمْ يَخْضَعُوا لِأَحَدٍ ولم يجرؤ أحد ممن جاوروهم أن يسلب منهم شيئا رغما عنهم

فكَانَتِ المَدِينَةُ -لِكُلِّ ذَلِكَ- أَصْلَحَ مَكَانٍ لهِجْرَةِ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَأَصْحَابِهِ، وَاتِّخَاذِهِمْ لَهَا دَارًا وَقَرَارًا، حَتَّى يَقْوَى الإِسْلَامُ، وَيَشُقَّ طَرِيقَهُ إِلَى الأَمَامِ، وَيَفْتَحَ الجَزِيرَةَ.

*الاستعداد للهجرة:

لَمَّا رجع رِجَالُ العَقَبَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، طَابَتْ نَفْسُهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُ مَنَعَةً وَقَوْمًا أَهْلَ حَرْبٍ وَعُدَّةٍ وَنَجْدَةٍ،

وأخذ البَلَاء يَشْتَدُّ عَلَى المُسْلِمِينَ مِنَ المُشْرِكِينَ لِمَا يَعْلَمُونَ مِنْ خُرُوجِهِمْ إِلَى المَدِينَةِ، فَضَيَّقُوا عَلَيْهِمْ، وَنَالُوا مِنْهُمْ مَا لَمْ يَكُوُنوا يَنَالُونَ مِنَ الشَّتْمِ وَالأَذَى، فَشَكَا ذَلِكَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَاسْتَأْذَنُوهُ في الهِجْرَةِ.

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إِنِّي أُرِيتُ دَارَ هِجْرَتِكُمْ، ذَاتَ نَخْلٍ بَيْنَ لَابَتَيْنِ، وَهُمَا الحَرَّتَانِ" (الأرض ذات الحجارة السوداء)، ثُمَّ مَكَثَ أَيَّامًا ثُمَّ خَرَجَ إِلَى أَصْحَابِهِ مَسْرُورًا، فَقَالَ: "قَدْ أُخْبِرْتُ بِدَارِ هِجْرَتِكُمْ وَهِيَ يَثْرِبُ، فَقنْ أَرَادَ الخُرُوجَ فَلْيَخْرُجْ إِلَيْهَا" 

ثُمَّ إِنَّهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَمَرَ جَمِيعَ المُسْلِمِينَ بِالهِجْرَةِ إِلَى المَدِينَةِ، وَاللُّحُوقِ بِإِخْوَانِهِمْ مِنَ الأَنْصَارِ، فَقَالَ لَهُمْ: "إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ جَعَلَ لَكُمْ إِخْوَانًا وَدَارًا تَأْمَنُونَ بِهَا". فَخَرَجُوا جماعات ومتفرقين، مُتَخَفِّينَ، مُشَاةً، وَرُكْبَانًا.

وَأَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِمَكَّةَ يَنْتَظِرُ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ رَبُّهُ فِي الخُرُوجِ مِنْ مَكَّةَ، وَالهِجْرَةِ إِلَى المَدِينَةِ.

* هِجْرَةُ مُهَاجِرِي الحَبَشَةِ إِلَى المَدِينَةِ:

وَحِينَ سَمِعَ مَنْ بِالحَبَشَةِ مِنَ المُسْلِمِينَ هِجْرَةَ إِخْوَانِهِمْ إِلَى المَدِينَةِ رَجَعَ مِنْهُمْ ثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ رَجُلًا وَثَمَانِيَ نِسْوَةٍ، فَمَاتَ مِنْهُمْ رَجُلَانِ بِمَكَّةَ، وَحُبِسَ بِمَكَّةَ سَبْعَةُ مِنْهُمْ: هِشَامُ بنُ العَاصِ بنِ وَائِلٍ، وَسَلَمَةُ بنُ هِشَامِ بنِ المُغِيرَةِ، وَهَاجَرَ البَاقُونَ إِلَى المَدِينَةِ، وَبَقِيَ بِأَرْضِ الحَبَشَةِ جَعْفَرُ بنُ أَبِي طَالِبٍ، وَحَاطِبُ بنُ الحَارِثِ، وَمَعْمَرُ بنُ عَبْدِ اللَّهِ العَدَوِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ، حَالَتْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- الحَرْبُ التِي وَقَعَتْ بَيْنَ النَّجَاشِيِّ، وَمَنْ خَرَجُوا عَلَيْهِ، ثُمَّ قَدِمُوا عَلَى الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَامَ خَيْبرَ سَنَةَ سَبْعٍ لِلْهِجْرَةِ كَمَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ .

* المَصَاعِبُ التِي وَاجَهَهَا المُهَاجِرُونَ -رضي اللَّه عنهم-:


لَمْ تَكُنْ هِجْرَةُ المُسْلِمِينَ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ هَيِّنَةً سَهْلَةً، تَسْمَعُ بِهَا قُرَيْشٌ، وَترضى بها، بَلْ كَانُوا يَضَعُونَ العَرَاقِيلَ فِي سَبِيلِ الِانْتِقَالِ مِنْ مَكَّةَ إِلَى المَدِينَةِ، وَيعذبون المُهَاجِرِينَ ليتراجعوا عن فكرة الخروج ولكن المهاجرين فضلوا الهجرة عن البَقَاءَ فِي مَكَّةَ، . . . رغم علمهم أَنَّ مَعْنَى الهِجْرَةِ إِهْدَارُ المَصَالِحِ، وَالتَّضْحِيَةُ بِالأَمْوَالِ، وَالنَّجَاةُ بِأنفسهم فحسب، رغم سيرهم نحو مستقبل غامض لا يدرون ما سيحدث لهم ضحوا بأموالهم وبيوتهم واستقرارهم في سبيل الله.


نكمل معا في الحلقة القادمة إن شاء الله أحداث الهجرة وأول من هاجر من الصحابة رضي الله عنهم .