الأربعاء، 1 يناير 2025

بناء المسجد النبوي

 الحَيَاةُ فِي المَدِينَةِ المُنَوَّرَةِ

يُمْكِنُ تَقْسِيمُ العَهْدِ المَدَنِيِّ إلى ثَلَاثِ مَرَاحِلَ:


١ - مَرْحَلَةٌ أُثِيرَتْ فِيهَا القَلَاقِلُ والفِتَنُ، وأُقِيمَتْ فِيهَا العَرَاقِيلُ مِنَ الدَّاخِلِ، وزَحَفَ فِيهَا الأعْدَاءُ إلى المَدِينَةِ لِاسْتِئْصَالِ (أي قَلَعَهُ من أصله) خَضْرَائِهَا مِنَ الخَارجِ، وهَذِهِ المَرْحَلَةُ تَنتهِي إِلَى صُلْحِ الحُدَيْبِيَةِ في ذِي القَعْدَةِ مِنَ السَّنَةِ السَّادِسَةِ لِلْهِجْرَةِ.

٢ - مَرْحَلَةُ الهُدْنَةِ مَعَ الزَّعَامَةِ الوَثَنِيَّةِ، وتَنتهِي بِفَتْحِ مَكَّةَ في رَمَضَانَ مِنَ السَّنَةِ الثَّامِنَةِ لِلْهِجْرَةِ، وهِيَ مَرْحَلَةُ دَعْوَةِ المُلُوكِ إلى الإِسْلَامِ.

٣ - مَرْحَلَةُ دُخُولِ النَّاسِ في دِينِ اللَّهِ أفْوَاجًا، وهِيَ مَرْحَلَةُ تَوَافُدِ القَبَائِلِ والأَقْوَامِ إِلَى المَدِينَةِ، وهَذ المَرْحَلَةُ تَمْتَدُّ إلى انْتِهَاءَ حَيَاةِ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- في رَبِيعٍ الأوَّلِ مِنَ السَّنَةِ الحَادِيَةَ عَشْرَةَ لِلْهِجْرَةِ.


مِنْ بنَاءِ الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ إِلَى فَرْضِ زَكَاةِ الفِطْرِ

أُسُسُ بنَاءِ المُجْتَمَع الإِسْلامِيِّ في المَدِينَةِ


أَوَّلًا: بِنَاءُ المَسْجِدِ النَّبَوِيِّ

أوَّلُ عَمَلٍ قَامَ بِهِ الرَّسُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم- بَعْدَ نُزُولِهِ في بَيْتِ أَبِي أَيُّوبَ الأنْصَارِيِّ -رضي اللَّه عنه- هُوَ بِنَاءُ المَسْجِدِ النَّبَوِيِّ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ نَاقَةَ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بَرَكَتْ في مِرْبَدٍ لِلتَّمْرِ لِسُهَيْلٍ وسَهْلٍ، غُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ مِنْ بَنِي النَّجَّارِ، وكَانَ الذِي يَكْفُلُهُمَا أسْعَدُ بنُ زُرَارَةَ -رضي اللَّه عنه-.

ثُمَّ دَعَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- الغُلَامَيْنِ فَسَاوَمَهُمَا بالمِرْبَدِ لِيَتَّخذَهُ مَسْجِدًا، فَقَالَا: لَا بَلْ نَهَبُهُ (الهِبَة: هي العَطِيّة بدون مقابل) لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَأبَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَنْ يَقْبَلَهُ مِنْهُمَا حتَّى ابْتَاعَهُ (اشترَاهُ) مِنْهُمَا، ثُمَّ بَنَاهُ مَسْجِدًا.


قال الشَّيخ علي الطنطاوي في كِتابه رجال من التاريخ: نحنُ الآنَ مع الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- في المدينةِ. إنه يُؤَسِّس الدولة الحديثة، فَبِمَ ترَوْنَهُ يبدأ؟ بمِهرجان فَخْمٍ يبايعونه فيه بالملك؟ إنه لا يُريد الملك، يَبني ثَكَنة -الثَّكنة: هي مراكز الأجنادِ على راياتهم- باحتفالٍ عظيمٍ ويُجيش جيشًا؟ إنه لا يَبْتغي العُلُوَّ في الأرض، يَفْرِضُ الضَّرَائب؟ لا، ولكن يبدأ بِعِمارة المسجد. إنها ظاهرةٌ عَظيمة يَحْسُنُ أن يقِف القارئ عندها. يبدأ بالمسجد، كما بَدَأ الوحي بآية (القِراءة) و (التَّعْليم) بالقلم.

بدأ بالمسجدِ، والمسجدُ في الإِسلام، هو مكان العبادةِ (رمز) الإيمان, وهو البَرْلَمَانُ (رمز) العدل، وهو المَدْرَسَة (رمز) العلم.

ولم يَغْصُبْهُ، بل شَراه بالمال، وذلك (رمزُ) الإنصاف، ولم يأمُر ببنائه ويَقْعد، بل شَارك أصحابه العمل، وحَمَل الحجارةَ بيدهِ الشريفة -صلى اللَّه عليه وسلم- وهذا (رمز) التواضُع، وبَنَاه من اللَّبِن والطين، بلا زخارف ولا نُقُوش، وهذا (رمز) البَسَاطة. فكان من هذه (الرموز) الإيمان والعدل والعلم والأنصاف والتواضع والبساطة مجموعة شعائر الإِسلام.


* مُشَارَكَةُ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- في بِنَاءِ المَسْجِدِ:

وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَنْقُلُ مَعَهُمُ اللَّبِنَ (اللبِنُ: هو الطُّوب المعمول من الطِّين) والحِجَارَةَ في بُنْيَانِهِ، وهُوَ يَقُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم-:

هَذَا الحِمَالُ ( أي هذا المحمول من اللبن (أبَرّ) عند اللَّه، أي أبقى ذُخرًا وأكثر ثَوابًا، وأدوم منفعةً، وأشدّ طهارةً من حِمَال خيبر، أي التي يُحمل منها التمر والزبيب ونحو ذلك.) لَا حِمَالَ خَيْبَرِ ... هَذَا أَبرّ رَبِّنَا وَأَطْهَرِ.

ويَقُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَيْضًا:

اللَّهُمَّ إِنَّ الأَجْرَ أَجْرُ الآخِرَهْ ... فَارْحَمِ الأَنْصَارَ والمُهَاجِرَهْ


فَلَمَّا رَأَى الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ الرَّسُولَ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَعْمَلُ مَعَهُمْ، قَالَ قَائِلُهُمْ:

لَئِنْ قَعَدْنَا وَالنَّبِيُّ يَعْمَلُ ... لَذَاكَ مِنَّا العَمَلُ المُضَلَّلُ

وكَانُوا يُنْشِدُونَ وهُمْ يَعْمَلُونَ:

اللَّهُمَّ لَا خَيْرَ إِلَّا خَيْرُ الآخِرَهْ ... فَانْصُرِ الأَنْصَارَ وَالمُهَاجِرَهْ

فَيُجِيبُهُمُ الرَّسُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم-:

اللَّهُمَّ لَا خَيْرَ إِلَّا خَيْرُ الآخِرَهْ ... فَاغْفِرْ لِلْأَنْصَارِ وَالمُهَاجِرَهْ 


* شِدَّةُ عَمَّارٍ -رضي اللَّه عنه- في العَمَلِ:

وَكَانَ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ يَحْمِلُونَ لَبِنَة لَبِنَةً، وجَعَلَ عَمَّارُ بنُ يَاسِرٍ -رضي اللَّه عنه- يَحْمِلُ لَبِنَتَيْنِ لَبِنَتَيْنِ، وكَانَ رَجُلًا ضَابِطًا (الضَّابِطُ: الشديدُ البَطْشِ والقوةِ والجِسْم)، فَرَآهُ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَجَعَلَ يَنْفُضُ التُّرَابَ عَنْ رَأْسِهِ وهُوَ يَقُولُ: "يَا عَمَّارُ ألَا تَحْمِلُ مَا يَحْمِلُ أصْحَابُكَ؟ " قَالَ: إنِّي أُرِيدُ الأَجْرَ مِنَ اللَّهِ، فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ابْنَ سمَيَّةَ، لِلنَّاسِ أَجْرٌ وَلَكَ أجْرَانِ، وآخِرُ زَادِكَ شَرْبَةٌ مِنْ لَبَنٍ ، وتَقْتُلُكَ الفِئَةُ البَاغِيَةُ".

(قال عمَّار يوم صِفِّين: ائتُوني بشَربَةِ لبَنٍ، فإن رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "آخر شَرْبَةٍ تشربها من الدنيا شَرْبة لَبَنٍ"، فأُتِيَ بشربةِ لَبَنٍ، فشربها، ثم تَقَدَّم فَقُتِل).


* كَمِ اسْتَغْرَقَ بِنَاءُ المَسْجِدِ النَّبَوِيِّ؟ :

واسْتَغْرَقَ بِنَاءُ المَسْجِدِ النَّبَوِيِّ اثْنَيْ عَشَرَ يَوْمًا، وكَانَ في أبْسَطِ صُورَةٍ، فِرَاشُهُ الرِّمَالُ، وأعْمِدَتُهُ جُذُوعُ النَّخْلِ، وسَقْفُهُ جَرِيدُ النَّخْلِ، وطُولُهُ مِمَّا يَلِي القِبْلَةَ إلى مُؤَخِّرِهِ مِائَةُ ذِرَاعٍ، والجَانِبَانِ مِثْلُ ذَلِكَ أَوْ دُونَهُ .


* بِنَاءُ الحُجُرَاتِ:

وبَعْدَ الفَرَاغِ مِنْ بِنَاءِ المَسْجِدِ، بُنِيَتِ الحُجُرَاتُ لِأَزْوَاجِ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- حَوْلَ مَسْجِدِهِ الشَّرِيفِ، وسُقِّفَتْ بِالجَرِيدِ، وجُذُوعِ النَّخْلِ؛ لِتَكُونَ مَسَاكِنَ لرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وأهْلِهِ، فكان لسَوْدَةَ بِنتِ زَمْعَةَ بَيْت رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، وآخَرُ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا؛ لأَنَّهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- لَمْ يَكُنْ تَزَوَّجَ في ذَلِكَ الوَقْتِ إِلَّا سَوْدَةَ وعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.

وَقَدْ أُضِيفَتْ هَذِهِ البُيُوتُ إلى المَسْجِدِ بَعْدَ مَوْتِ أزْوَاجِ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم-.


* تَوْسِعَةُ المَسْجِدِ النَّبَوِيِّ الشَّرِيفِ:

وَظَلَّ المَسْجِدُ النَّبَوِيُّ عَلَى حَالِهِ الذِي بَنَاهُ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- حَتَّى كَثُرَ النَّاسُ وضَاقَ المَسْجِدُ، وذَلِكَ بَعْدَ غَزْوَةِ خَيْبَرَ، فَأَدْخَلَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- الأَرْضَ التِي اشْتَرَاهَا عُثْمَانُ بنُ عَفَّانَ -رضي اللَّه عنه- بِعِشْرِينَ أَلْفا أَوْ خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ أَلْفًا.


* تَوْسِعَةُ المَسْجِدِ النَّبَوِيِّ في زَمَنِ الخُلفَاءِ الرَّاشِدِينَ:

وظَلَّ المَسْجِدُ كَذَلِكَ مُدَّةَ خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ -رضي اللَّه عنه-، فَلَمْ يَزِدْ فِيهِ أَبُو بَكْرٍ شَيْئًا، وَلَمَّا اسْتُخْلِفَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ -رضي اللَّه عنه-، وَسَّعَهُ وَزَادَ فِيهِ، وبَنَاهُ عَلَى بُنْيَانِهِ في عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- باللَّبِنِ والجَرِيدِ، وأعَادَ عُمُدَهُ خَشَبًا.


وَقَدْ نَهَى عُمَرُ -رضي اللَّه عنه- عَنْ زَخْرَفَةِ الْمَسْجِدِ، لِأَنَّ ذَلِكَ يُشْغِلُ النَّاسَ عَنْ صَلَاتِهِمْ.

ثُمَ لَمَّا اسْتُخْلِفَ عُثْمَانُ -رضي اللَّه عنه- غَيَّرَهُ، وَزَادَ فِيهِ زِيَادَةً كَثِيرَةً، وجَعَلَ عُمُدَهُ مِنْ حِجَارَة مَنْقُوشَةٍ، وسَقْفَهُ مِنْ سَاجٍ (خشب يُجلب من الهند).


* مَكَانَةُ المَسْجِدِ فِي الإِسْلَامِ:


وَلَمْ يَكُنِ المَسْجِدُ مَوْضِعًا لِأَدَاءَ الصَّلَاةِ فَحَسْبُ، بَلْ كَانَ جَامِعَةً يَتَلَقَّى فِيهَا المُسْلِمُونَ تَعَالِيمَ الإِسْلَامِ وَتَوْجِيهَاتِهِ، ومُنْتَدى تَلْتَقِي فِيهِ العَنَاصِرُ القَبَلِيَّةُ المُخْتَلِفَةُ التِي طَالَمَا نَافَرَتْ بَيْنَهَا النَّزعَاتُ الجَاهِلِيَّةُ وحُرُوبُهَا، وقَاعِدَةً لِإِدَارَةِ جَمِيعِ الشُّؤُونِ، وبَثِّ الِانْطِلَاقَاتِ، وبَرْلَمَانًا لِعَقْدِ المَجَالِسِ الِاسْتِشَارِيَّةِ والتَّنْفِيذِيَّةِ.

وَكَانَ مَعَ هَذَا كُلِّهِ دَارًا يَسْكُنُ فِيهَا عَدَدٌ كَبِيرٌ مِنْ فُقَرَاءَ المُهَاجِرِينَ اللَّاجِئِينَ، الذِينَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ هُنَاكَ دَارٌ، وَلَا مَالٌ، وَلَا أهْلٌ، وَلَا بَنُونَ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يُجَالِسُهُمْ ويَأْنَسُ بِهِمْ، وكَانُوا يُسَمَّوْنَ أَهْلَ الصُّفَّةِ (الصُّفَّةُ: هو موضعٌ مُظَلَّلٌ في المسجد النبوي كان تَأْوِي إليه الفقراء والمساكين من لم يكن له منهم منزل)


* بِنَاءُ المِنْبَرِ:

وَكَانَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَخْطُبُ النَّاسَ مُسْتَنِدًا إلى جِذْعِ نَخْلَةٍ، فَلَمَّا كَثُرَ النَّاسُ -وَكَانَ ذَلِكَ بَعْدَ غَزْوَةِ خَيْبَرَ- قَالَ لَهُ أصْحَاُبهُ: لَوِ اتَّخَذْتَ شَيْئًا تَقُومُ عَلَيْهِ إِذَا خَطَبْتَ حَتَّى يَرَاكَ النَّاسُ، فَأَمَرَ ببنَاءَ المِنْبَرِ، فَلَمَّا صُنِعَ لَهُ المِنْبَرُ، وقَامَ عَلَيْهِ حَنَّ (أي نَزَعَ واشتَاقَ) ذَلِكَ الجِذْعُ إِلَيْهِ، وَسُمعَ لَهُ صِيَاحٌ كَصِيَاحِ الصَّبِيِّ، حَتَّى أتَاهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَمَسَحَ عَلَيْهِ فَسَكَنَ.


* من فَضَائِلُ المِنْبَرِ:

روَى الشَّيْخَانِ في صَحِيحَيْهِمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَة -رضي اللَّه عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَا بَيْنَ بَيْتِي وَمِنْبَرِي رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الجَنَّةِ، ومِنْبَرِي عَلَى حَوْضِي" ( "ومِنْبَرِي عَلَى حَوْضِي": أي يُنْقَلُ يوم القيامةِ فيُنْصَبُ على الحوضِ).


* فَضَائِلُ المَسْجِدِ النَّبَوِيِّ:

أخْرَجَ الشَّيْخَانِ في صَحِيحَيْهِمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: أَنَّ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَالَ: "صَلَاةٌ في مَسْجدِي هَذَا خَيْرٌ مِنْ ألْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ إِلَّا المَسْجِدَ الحَرَامَ".

وأخْرَجَ الشَّيْخَانِ في صَحِيحَيْهِمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إلى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ: المَسْجِدِ الحَرَامِ، ومَسْجِدِ الرَّسولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- ، ومَسْجِدِ الأَقْصَى".

الثلاثاء، 31 ديسمبر 2024

تسمية يثرب بطيبة والمدينة -وفضائل المدينة المنورة

 تَسْمِيَةُ يَثْرِبَ بطَيْبَةَ، وَطَابَةَ وَالمَدِينَةَ


كَانَتِ المَدِينَةُ المُنَوَّرَةُ عَلَى سَاكِنِهَا -صلى اللَّه عليه وسلم- أفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ تُسَمَّى فِي الجَاهِلِيَّةِ يَثْرِبَ، فَلَمَّا هَاجَرَ إِلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- سَمَّاهَا المَدِينَةَ، وطَيْبَةَ وَطَابَةَ (واشتقاقهما من الشيء الطيِّب).

رَوَى الإِمَامُ مُسْلِمٌ في صَحِيحِهِ عَنْ جَابِرِ بنِ سَمُرَةَ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَقُولُ: "إِنَّ اللَّه تَعَالَى سَمَّى المَدِينَةَ طَابةَ" .


* فَضَائِلُ المَدِينَةِ المُنَوَّرةِ:

قَالَ الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ: وَقَدْ شَرُفَتِ المَدِينَةُ بِهِجْرَتِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَيْهَا، وصَارَتْ كَهْفًا لِأَوْلِيَاءِ اللَّهِ، وعِبَادِهِ الصَّالِحِينَ، ومَعْقِلًا وَحِصْنًا مَنِيعًا لِلْمُسْلِمِينَ، وَدَارَ هُدًى لِلْعَالَمِينَ .

أخْرَجَ الشَّيْخَانِ في صَحِيحَيْهِمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إِنَّ الإيمَانَ لَيَأْرِزُ (يَأْرِزُ: بفتح أوله وسكون الهمزة وكسر الراء أي ينضم إليها ويجتمع بعضه إلى بعض فيها.) إِلَى المَدِينهِ كَمَا تَأْرِزُ الحَيَّةُ إِلَى جُحْرِهَا" .

ويقول: كُلُّ مُؤْمِنٍ لَه مِنْ نَفْسِهِ سَائِقٌ إِلَى المَدِينَةِ، لِمَحَبَّتِهِ في النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَيَشْمَلُ ذَلِكَ جَمِيعَ الأزْمِنَةِ؛ لأَنَّهُ في زَمَنِ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- للتَّعَلُّمِ مِنْهُ، وفِي زَمَنِ الصَّحَابَةِ والتَّابِعِينَ وتَابِعِيهِمْ لِلِاقْتِدَاءِ بِهَدْيِهِمْ، وَمِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لِزِيَارَةِ مَسْجِدِهِ وَقَبْرِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-

وأخْرَجَ الإِمَامُ مُسْلِمٌ في صَحِيحِهِ وابنُ حِبَانَ في صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَنْ أَرَادَ أَهْلَ المَدِينَةِ بِسُوءٍ، أذَابَهُ اللَّهُ كَمَا يَذُوبُ المِلْحُ في المَاءَ".

وأخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ في مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنِ السَّائِبِ بنِ خَلَّادٍ -رضي اللَّه عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَالَ: "مَنْ أَخَافَ أَهْلَ الْمَدِينَةِ، أَخَافه اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَعَلَيْهِ لَعْنةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا".

* تَمَنِّي عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ -رضي اللَّه عنه- المَوْتَ في المَدِينَةِ:

رَوَى ابنُ حِبَّانَ في صَحِيحهِ والإِمَامُ أحمَدُ في مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ عنِ ابنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَمُوتَ بِالمَدِينَةِ، فَلْيَمُتْ بِالمَدِينَةِ فَإِنِّي أشْفَعُ لِمَنْ مَاتَ بِهَا".

وَلِهَذَا كَانَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ -رضي اللَّه عنه- يَدْعُو اللَّه تَعَالَى أَنْ يَرْزُقَهُ المَوْتَ في المَدِينَةِ، فَقَدْ أخْرَجَ الإِمَامُ البُخَارِيُّ في صَحِيحِهِ عَنْ زَيْدِ بنِ أَسْلَمَ عَنْ أبِيهِ عَنْ عُمَرَ -رضي اللَّه عنه- أَنَّهُ قَالَ: اللَّهُمَّ ارْزُقْنِي شَهَادَةً في سَبِيلِكَ، واجْعَلْ مَوْتِي في بَلَدِ رَسُولِكَ -صلى اللَّه عليه وسلم-.

وكَانَ سَبَبُ تَمَنِّي عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ -رضي اللَّه عنه- الشَّهَادَةَ، هُوَ مَا أخْرَجَهُ ابنُ سَعْدٍ في طَبَقَاتِهِ، والإِمَامُ أَحْمَدُ في فَضَائِلِ الصَّحَابَةِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ عَوْفِ بنِ مَالِكٍ الأَشْجَعِيِّ -رضي اللَّه عنه- أَنَّهُ رَأَى رُؤْيَا في المَنَامِ: أَنَّ عُمَرَ -رضي اللَّه عنه- شَهِيدٌ مُسْتَشْهَدٌ.

فَقَصَّهَا عَلَى عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ -رضي اللَّه عنه-، فَقَالَ عُمَرُ -رضي اللَّه عنه-: أَنَّى لِي بِالشَّهَادَةِ، وَأَنَا بَيْنَ ظَهْرَانَيْ جَزِيرَةِ العَرَبِ لَسْتُ أَغْزُو، والنَّاسُ حَوْلي يَغْزُونَ، ثُمَّ قَالَ -رضي اللَّه عنه-: بَلَى يَأْتِي بِهَا اللَّهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ .

وقَدِ اسْتَجَابَ اللَّهُ تَعَالَى لِلْفَارُوقِ -رضي اللَّه عنه-، فَاسْتُشْهِدَ في مَسْجِدِ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَهُوَ يَؤُمُّ المُسْلِمِينَ في صَلَاةِ الفَجْرِ .


* * *

الخميس، 30 نوفمبر 2023

إقامة رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت أبي أيوب الأنصاري وإصابة المسلمون بالحمى




* النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي بَيْتِ أَبِي أيُّوبٍ الأَنْصَارِيِّ:

ذَكَرْنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ نَزَلَ عَلَى أَبِي أَيُّوبٍ الْأَنْصَارِيِّ -رضي اللَّه عنه-، وَقَدْ فرِحَ أَبُو أَيُّوبٍ -رضي اللَّه عنه- بِنُزُولِ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عِنْدَهُ، وكَان -رضي اللَّه عنه- شَدِيدَ الحِرْصِ عَلَى رَاحَةِ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم-.

 نَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي القِسْمِ السُّفْلِيِّ مِنْ بَيْتِ أَبِي أيُّوبٍ، وأَبُو أَيُّوبَ وَزَوْجَتُهُ فِي القِسْمِ العُلْوِيِّ، فَانْتَبَهَ أَبُو أيُّوبٍ لَيْلَةً فَقَالَ: نَمْشِي فَوْقَ رَأْسِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-!

فتَنَحَّوا فَكَانُوا فِي جَانِبٍ، فَلَمْ يَزَلْ سَاهِرًا حَتَّى أصْبَحَ، وفي الصَّبَاحِ أتَى الرَّسُولَ -صلى اللَّه عليه وسلم- فقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ! بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي إِنِّي لَأَكْرَهُ، وَأُعْظِمُ أَنْ أَكُونَ فَوْقَكَ، وتَكُونَ تَحْتِي، فكُنْ أَنْتَ فِي العُلْوِ، ونَنْزِلُ نَحْنُ فَنَكُونُ فِي السُّفْلِ، فَقَالَ لَهُ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "يَا أبَا أيُّوبَ السُّفْلُ أرْفَقُ بِنَا وبِمَنْ يَغْشَانَا" (أي بمن يأتي إلينا ).


قَالَ أَبُو أيُّوبٍ: فَكَانَ رَسُولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في أسفل المنزل، وكُنَّا فَوْقَهُ فِي المَسْكَنِ، فَلَقَدِ انْكَسَرَ حُبٌّ (أي جرة) لَنَا فِيهِ مَاءٌ، فَقُمْتُ أنَا وَأُمُّ أيُّوب بِقَطِيفَةٍ (يعني كساء) لنَا، مَا لَنَا لِحَافٌ غَيْرُهَا، نَنَشِّفُ بِهَا المَاءَ تَخَوُّفًا أَنْ يَقْطُرَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنْهُ شَيْءٌ فيؤْذِيَهُ،

 فنَزَلْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فَقُلْتُ: لَا أَعْلُو سَقِيفَةً أَنْتَ تَحْتَهَا، وَلَمْ يَزَلْ أَبُو أيُّوبٍ بِالرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، يَرْجُوهُ ويُلحُّ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ هُوَ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي الأَعْلَى، وَأَنْ يَكُونَ أَبُو أيُّوب فِي الأَسْفَلِ، فَقَبِلَ الرَّسُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَنْ يَكُونَ فِي الأَعْلَى.


قَالَ أَبُو أيُّوب -رضي اللَّه عنه-: وكُنَّا نَصْنَعُ لِلنَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- العَشَاءَ، ثُمَّ نَبْعَثُ بِهِ إِلَيْهِ، فَإِذَا رَدَّ عَلَيْنَا فَضْلَهُ تتبعت أنَا وَأُمُّ أيُّوبٍ مَوْضعَ أصَابِعِهِ، فَأَكَلْنَا مِنْهُ نَبْتَغِي بِذَلِكَ البَرَكَةَ، 

وَمَا كَانَتْ تَمُرُّ لَيْلَةٌ إِلَّا وَعَلَى بَابِ رَسُولِ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- الثَّلَاثَةُ والأَرْبَعَةُ مِنَ الصَّحَابَةِ الأَنْصَارِ، يَتَنَاوَبُونَ فِي حَمْلِ طَعَامِهِمْ إِلَى الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم-،.


* مُدَّةُ إِقَامَةِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي بَيْتِ أَبِي أيُّوبٍ -رضي اللَّه عنه-:

كَانَتْ مُدَّةُ إِقَامَةِ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي بَيْتِ أَبِي أيُّوبٍ -رضي اللَّه عنه- شَهْرًا وَاحِدًا.


* قُدُومُ آلِ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- وعِيَالُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ -رضي اللَّه عنه-:

بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وهُوَ فِي بَيْتِ أَبِي أَيُّوبٍ -رضي اللَّه عنه-، زَيْدَ بنَ حَارِثَةَ وأبَا رَافِعٍ مَوْلَاهُ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا، إِلَى مَكَّةَ، وأعْطَاهُمَا بَعِيرَيْنِ وَخَمْسَمِائَةِ درْهَمٍ لِيَأْتِيَاهُ بِأَهْلِهِ، فَقَدِمَا بِفَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، وأُمِّ كُلْثُومٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ابْنَتَيْهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وسَوْدَةَ بِنْتِ زَمْعَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا زَوْجَتِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وأُمِّ أيْمَنَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا حَاضِنَةِ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وزَوْجِ زَيْدِ بنِ حَارِثَةَ -رضي اللَّه عنه-، وابْنِهَا أُسَامَةَ بنِ زَيْدٍ -رضي اللَّه عنه-.

وَأَمَّا زَيْنَبُ بِنْتُ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَمَنَعَهَا زَوْجُهَا أَبُو العَاصِ بنُ الرَّبِيعِ -وَكَانَ لَا يَزَالُ مُشْرِكًا- مِنَ الهِجْرَةِ، وَأَمَّا رُقيّةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا بِنْتُ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَهَاجَرَتْ مِنْ قَبْلُ مَعَ زَوْجِهَا عُثْمَانَ بنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا.

وخَرَجَ مَعَهُمْ عَبْدُ اللَّه بنُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا بِعِيَالِ أبِيهِ، وهُمْ: أُمُّ رُومَانَ رَضِيَ اللَّه عَنْهَا زَوْجَةُ أَبِي بَكْرٍ، وأُخْتَاهُ عَائِشَةُ وَأَسْمَاءُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، حَتَّى قَدِمُوا جَمِيعًا المَدِينَةَ فنَزَلُوا فِي بَنِي الحَارِثِ بنِ الخَزْرَجِ بِالسُّنْحِ، وَنَزَلَ آل رَسُولِ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي بَيْتِ حَارِثَةَ بنِ النُّعْمَانِ -رضي اللَّه عنه-.


* وِلَادَةُ عَبْدِ اللَّه بنِ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا:

وكَانَتْ أسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا حِينَ هَاجَرَتْ حَامِلًا بِابْنِهَا عَبْدِ اللَّهِ بنِ الزُّبَيْرِ -رضي اللَّه عنه-، فَلَمَّا نَزَلَتْ قباءَ وَلَدَتْ، فَأتتْ بِهِ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم-  فَأَخَذَهُ رَسُولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فَوَضَعَهُ في حِجْرِهِ، ودَعَا لَهُ وَسَمَّاهُ: "عَبْدَ اللَّه"، وكَانَ أوَّلَ مَنْ وُلِدَ فِي الإِسْلَامِ بَعْدَ الهِجْرَةِ بِالمَدِينَةِ وقد فرح به المسلمون كثيرا لأن اليهود كانوا يقولون للمسلمين سحرناكم فلا يولد لكم.


* وَفَاةُ البَرَاءِ بنِ مَعْرُورٍ -رضي اللَّه عنه-:

وَالبَرَاءُ بنُ مَعْرُورٍ -رضي اللَّه عنه- كَانَ مِنَ السَّبْعِينَ لَيْلَةَ العَقَبَةِ الثَّانِيَةِ، وهُوَ أحَدُ النُّقَبَاءَ الذِينَ بَايَعُوا رَسُولَ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- نيَابَةً عَنْ قَوْمِهِمْ، وهُوَ أوَّلُ مَنْ بَايَعَ رَسُولَ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لَيْلَةَ العَقَبَةِ.

حِينَ قَدِمَ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم-  المَدِينَةَ سَأَلَ عَنِ البَرَاء بنِ مَعْرُورٍ فَقَالُوا: تُوُفِّيَ، وَأَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لَكَ يَا رَسُولَ اللَّه، وَأَوْصَى أَنْ يُوَجَّهَ إِلَى الكَعْبَةِ لَمَّا احْتُضِرَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أَصَابَ الفِطْرَةَ وَقَدْ رَدَدْتُ ثُلُثَهُ عَلَى وَلَدِهِ"، ثُمَّ ذَهَبَ فَصَلَّى عَلَيْهِ، فَقَالَ: "اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ وَارْحَمْهُ وَأَدْخِلْهُ جَنَّتَكَ..

وَكَانَتْ وَفَاتُهُ -رضي اللَّه عنه- فِي صَفَرٍ قَبْلَ قُدُومِ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- المَدِينَةَ بِشَهْرٍوهُوَ أوَّلُ مَنِ اسْتَقْبَلَ الكَعْبَةَ حَيًّا وَمَيْتًا قَبْلَ أَنْ يُؤْمَرَ الرَّسُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم- بالتَّوَجُّهِ إِلَيْهَا.


*حُمَّى المَدِينَةِ

قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّه عَنْهَا: لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- المَدِينَةَ، قَدِمَهَا وَهِيَ أَوْبَأُ أَرْضِ اللَّه مِنَ الحُمَّى، فَأَصَابَ أَصْحَابَهُ مِنْهَا بَلَاءٌ وَسُقْمٌ، وصَرَفَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ عَنْ نَبِيِّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- .

وأخْرَجَ الإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَد بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ عَلِيٍّ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: لَمَّا قَدِمْنَا المَدِينَةَ أَصَبْنَا مِنْ ثِمَارِهَا، فَاجْتَوَيْنَاهَا وأصَابَنَا بِهَا وَعْكٌ (أي أصابهم المرض والحمى).

وتعب المُهَاجِرُونَ في المَدِينَةَ، وَلَمْ يُوَافِقْ هَوَاؤُهَا أبْدَانَهُمْ، وجَهِدُوا حَتَّى كَانُوا مَا يُصَلُّونَ إِلَّا وَهُمْ قُعُودٌ  فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "صَلَاةُ القَاعِدِ نِصْفُ صَلَاةِ القَائِمِ"

فقام النَّاسُ للصَّلَاةَ عَلَى مَا بِهِمْ مِنَ الضَّعْفِ والسُّقْمِ، ليأخذوا الأجر.

وعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهَا قَالَتْ: لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- المَدِينَةَ، اشْتَكَى أصْحَابُهُ، وَاشْتَكَى أَبُو بَكْرٍ، وعَامِرُ بنُ فُهَيْرَةَ مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ، وبِلَالٌ، فَاسْتَأْذَنَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّه عَنْهَا رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي عِيَادَتِهِمْ، فَأَذِنَ لَهَا فكانوا يهذون من شدة المرض.

قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّه عَنْهَا: فَجِئْتُ رَسُولَ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّه إِنَّهُمْ لَيَهْذُونَ ومَا يَعْقِلُونَ مِنْ شِدَّةِ الحُمَّى، فَقَالَ رَسُولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا المَدِينَةَ كحُبِّنَا مَكَّةَ أَوْ أَشَدَّ، وَصَحِّحْهَا، وَبَارِكْ لَنَا فِي صاعِهَا ومُدِّهَا، وانْقُلْ حُمَّاهَا فَاجْعَلْهَا بِالجُحْفَةِ" (الجحفة بضم الجيم هي قريةُ خربة بينها وبين مكةَ خَمْسُ مراحل أو سِتة، وسُمِّيت الجُحفة؛ لأن السَّيْلَ أجحَفَ بها -أي ذهب بها-).

وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم رؤيا أن امْرَأةً سَوْدَاءَ ثَائِرَةَ الرَّأْسِ خَرَجَتْ مِنَ المَدِينَةِ إلى الجحفة فأوَّل رسول الله هذه الرؤيا بأنها الحمى خرجت من المدينة.


* دُعَاءُ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِلْمَدِينَةِ:

ثُمَّ دَعَا رَسُولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لِلْمَدِينَةِ فقال: "اللَّهُمَّ إِنَّ إبْرَاهِيمَ خَلِيلَكَ وَعَبْدَكَ وَنَبِيَّكَ دَعَاكَ لِأَهْلِ مَكَّةَ، وَأَنَا مُحَمَّدٌ عَبْدُكَ وَنَبِيُّكَ وَرَسُولُكَ أدْعُوكَ لِأَهْلِ المَدِينَةِ مِثْلَ مَا دَعَاكَ بِهِ إبْرَاهِيمُ لِأَهْلِ مَكَّةَ، نَدْعُوكَ أَنْ تُبَارِكَ لَهُمْ فِي صَاعِهِمْ (الصَّاعُ: هو كيلوان ونصف من الطعام) وَمُدِّهِمْ (المُدُّ: مقدار مِلْئُ الكفَّيْنِ.) وثِمَارِهِمْ، اللَّهُمَّ حَبِّبْ إلَيْنَا المَدِينَةَ كَمَا حَبَّبْتَ إلَيْنَا مَكَّةَ، واجْعَلْ مَا بِهَا مِنْ وَبَاءٍ بِخُمٍّ (خُم: بضم الخاء: موضعٌ بين مكة والمدينة على ثلاثةِ أميال من الجُحْفَة.)، اللَّهُمَّ إنِّي قَدْ حَرَّمْتُ مَا بَيْنَ لَابتَيْهَا (اللَّابَتَانِ: الحَرَّتَانِ وهي ما تحيط بالمدينة وذكرناها بحلقة خصائص المدينة) كَمَا حُرِّمَتْ عَلَى لِسَانِ إبْرَاهِيمَ الحَرَمُ".

وأخْرَجَ الشَّيْخَانِ فِي صحِيحَيْهِمَا عَنْ أنسٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "اللَّهُمَّ اجْعَلْ بِالمَدِينهِ ضِعْفَي مَا جَعَلْتَ بِمَكَّةَ مِنَ البرَكةِ".

نكمل في الحلقة القادمة إن شاء الله 

الاثنين، 30 أكتوبر 2023

دخول النبي صلى اللَّه عليه وسلم إلى المدينة

  *كَمْ أَقَامَ الرَّسُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِقُبَاءَ؟

قَالَ ابنُ إِسْحَاقَ: قدم رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قُبَاءَ، فنزل فِي حَيٍّ يُقَالُ لَهُمْ بَنِي عَمْرِو بنِ عَوْفٍ فَأَقَامَ فِيهِمْ أَرْبَعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً وفي رواية أربع ليال.


تَأْسِيسُ مَسْجِدِ قُبَاءَ

كَانَ أَوَّلَ عَمَلٍ قَامَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لَمَّا قَدِمَ قُبَاءَ أَنْ أَسَّسَ مَسْجِدَ قُباءَ، وَهُوَ المَسْجِدُ الذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى وَصَلَّى فِيهِ، وَهُوَ أَوَّلُ مَسْجِدٍ بُنِيَ فِي الإِسْلَامِ .

 وَهُوَ أَوَّلُ مَسْجِدٍ صَلَّى النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِيهِ بِأَصْحَابِهِ جَمَاعَةً ظَاهِرًا، وَأَوَّلُ مَسْجِدٍ بُنِيَ لِجَمَاعَةِ المُسْلِمِينَ عَامَّةً.

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} (سورة التوبة ).

وفي رواية أخرى أن المقصود بالمسجد الذي أسس على التقوى في الآية هو مسجد المدينة فقد رَوَى الإِمَامُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عَنِ المَسْجِدِ الذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى، فَقَالَ: "هُوَ مَسْجِدُكُمْ هَذَا" -لِمَسْجِدِ المَدِينَةِ.


* فَضَائِلُ مَسْجِدِ قُباءٍ:

 عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بنِ سَهْلِ بنِ حُنَيْفٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ أَبِي: قَالَ رَسُولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَنْ خَرَجَ حَتَّى يَأْتِي هَذَا المَسْجِدَ" -يَعْنِي مَسْجِدَ قُبَاءٍ- "فَيُصَلِّي فِيهِ، كَانَ كَعَدْلِ عُمْرَةٍ" (أخرجه الإمام أحمد في مسنده ).

وَرَوَى الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا عَنِ ابنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- يأْتِي مَسْجِدَ قبَاءٍ كُلَّ سَبْتٍ مَاشِيًا وَرَاكِبًا.


ارْتِحَالُ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنْ قُبَاءٍ وَأَوَّلُ جُمُعَةٍ صَلاهَا

وَلَمَّا كَانَ يَوْمَ الجُمُعَةِ رَكِبَ رَسُولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- رَاحِلَتَهُ، وَأَبُو بَكْرٍ -رضي اللَّه عنه- خلفه، وَأَرْسَلَ إِلَى مَلأٍ مِنْ بَنِي النَّجَارِ، فَجَاءُوا مُتَقَلِّدِي سُيُوفَهُمْ، فَسَارَ بِهِمْ نَحْوَ المَدِينَةِ، وَهُمْ مُحيطون به.


فَأَدْرَكَتِ الرَّسُولَ -صلى اللَّه عليه وسلم- صَلَاةُ الجُمُعَةِ فِي دِيَارِ بَنِي سَالِمِ بنِ عَوْفٍ،فَصَلَّاهَا فِي المَسْجِدِ الذِي فِي بَطْنِ وَادِي رَانُونَاءَ (وادٍ بين قباء والمدينة) بِمَنْ مَعَهُ مِنَ المُسْلِمِينَ، وَهُمْ مِئَةٌ، وَاسْتَقْبَلَ بَيْتَ المَقْدِسِ، فَلَمَّا أَبْصَرَتْهُ اليَهُودُ صَلَّى إِلَى قِبْلَتِهِمْ تَذَاكَرُوا بَيْنَهُمْ أَنَّهُ النَّبِيُّ الذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ.


قَالَ الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ: فَكَانَتْ هَذِهِ أَوَّلَ جُمُعَةٍ صَلَّاهَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِالمُسْلِمِينَ بِالمَدِينَةِ، أَوْ مُطْلَقًا، لِأَنَّه واللَّه أَعْلَمُ لَمْ يَكنْ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَتَمَكَّنُ هُوَ وَأَصْحَاُبهُ بِمَكَّةَ مِنَ الِاجْتِمَاعِ حَتَّى يُقِيمُوا بِهَا جُمُعَةً ذَاتَ خُطْبةٍ وإعْلَانٍ بِمَوْعِظَةٍ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِشِدَّةِ مُخَالفَةِ المُشْرِكِينَ لَهُ، وَأَذِيَّتِهِمْ إِيَّاهُ، وَسُمِّيَتِ الجُمُعَةُ جُمُعَةً؛ لِأنَّهَا مُشْتَقَّةً مِنَ الجَمْعِ، فَإِنَّ أَهْلَ الإِسْلَامِ يَجْتَمِعُونَ فِيهِ فِي كُلِّ أُسْبُوعٍ مَرَّةً.


* استِقْبَالُ أَهْلِ المَدِينَةِ الرَّسُولَ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَفَرَحُهُمْ بِهِ:

ثُمَّ رَكِبَ رَسُولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- نَاقتهُ مِنْ دِيَارِ بَنِي سالِمِ بنِ عَوْفٍ، وَأَرْخَى لَهَا الزِّمَامَ أي ترك الحبل لتذهب الناقة حيث تشاء، فَأتاهُ عِتْبَانُ بنُ مَالِكٍ، وَعَبَّاسُ بنُ عُبَادَةَ بنِ نَضْلَةَ فِي رِجَالٍ مِنْ بَنِي سالِمِ بنِ عَوْفٍ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّه! أَقِمْ عِنْدَنَا فِي العَدَدِ وَالعُدَّةِ ( أي المال والسلاح) وَالمَنَعَةِ (القوة التي تَمنع من يُريدهم بسُوءٍ)، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "خَلُّوا سَبِيلَهَا فَإِنَّهَا مَأْمُورَةٌ"، فَخَلُّوا سَبِيلَهَا، فَانْطَلَقَتْ، حَتَّى إِذَا وَازَنَتْ دَارَ بَنِي بَيَاضَةَ، تَلَقَّاهُ زِيَادُ بنُ لَبِيدٍ -رضي اللَّه عنه-، وَفَرْوَةُ بنُ عَمْرٍو -رضي اللَّه عنه-، فِي رِجَالٍ مِنْ بَنِي بَيَاضَةَ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّه! هَلُمَّ إِلَيْنَا، إِلَى الْعَدَدِ وَالْعُدَّةِ وَالْمَنَعَةِ، فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "خَلُّوا سَبِيلَهَا فَإِنَّهَا مَأْمُورَةٌ" فَخَلُّوا سَبِيلَهَا، فَانْطَلَقَتْ، حَتَّى إِذَا مَرَّتْ بِدَارِ بَنِي سَاعِدَةَ، اعْترَضَهُ سَعْدُ بنُ عُبَادَةَ -رضي اللَّه عنه-، وَالْمُنْذِرُ بنُ عَمْرٍو -رضي اللَّه عنه-، فِي رِجَالٍ مِنْ بَنِي سَاعِدَةَ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّه، هَلُمَّ إِلَيْنَا إِلَى الْعَدَدِ وَالْعُدَّةِ وَالْمَنَعَةِ، فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "خَلُّوا سَبِيلَهَا فَإِنَّهَا مَأْمُورَةٌ"، فَانْطَلَقَتْ، حَتَّى دَخَلَ رَسُولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- المَدِينَةَ بَعْدَ الجُمُعَةِ، فِي جَوٍّ مَشْحُونٍ بِالفَرَحِ وَالبَهْجَةِ وَالسُّرُورِ، وَكَانَ يَوْمًا تَارِيخِيًّا مَشْهُودًا، فَقَدْ كَانَتِ البُيُوتُ وَالسِّكَكُ تَرْتَجُّ بِأَصْوَاتِ التَّحْمِيدِ وَالتَّكْبِيرِ.

وَأَشْرَقَتِ المَدِينَةُ بِحُلُولهِ فِيهَا -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَسَرَى السُّرُورُ إِلَى القُلُوبِ.


وَأَخْرَجَ الإِمَامُ البُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنِ البَرَاءِ بنِ عَازِبٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: . . . فَمَا رَأَيْتُ أَهْلَ المَدِينَةِ فَرِحُوا بِشَيءٍ فَرَحَهُمْ بِرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، حَتَّى جَعَلَ الإِمَاءُ (جمع الأمة وهي عكس الحرة) يَقُلْنَ: قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- .


وَأَخْرَجَ الإِمَامُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنِ البَرَاءِ بنِ عازِبٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: . . . فَصَعَدَ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ فَوْقَ البُيُوتِ، وَتَفَرَّقَ الغِلْمَانُ وَالخَدَمُ فِي الطُّرُقِ، ينَادُونَ: يَا مُحَمَّدُ! يَا رَسُولَ اللَّه! يَا مُحَمَّدُ! يَا رَسُولَ اللَّهِ.


وَأَخْرَجَ ابنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: . . . فَخَرَجَ النَّاسُ حِينَ قَدِمْنَا المَدِينَةَ فِي الطُّرُقِ، وَعَلَى البُيُوتِ مِنَ الغِلْمَانِ وَالخَدَمِ يَقُولُونَ: جَاءَ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ.

وَرَوَى البَيْهَقِيُّ فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ عِنْ أَنسٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: فَخَرَجَتْ جَوَارٍ مِنْ بَنِي النَّجَارِ يَضْرِبْنَ بِالدُّفِ وَهُنَّ يَقُلْنَ:

نَحْنُ جَوَارٍ مِنْ بَنِي النَّجَارِ ... يَا حَبَّذَا مُحَمَّدٌ مِنْ جَارِ 

وَأَخْرَجَ ابنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَالإِمَامُ أَحْمَدُ فِي المُسْنَدِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ أَنَسِ بنِ مَالِكٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: لَمَّا كَانَ اليَوْمُ الذِي دَخَلَ رَسُولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فِيهِ المَدِينَةَ، أَضَاءَ مِنْهَا كُلُّ شَيْءٍ.



وَأَخْرَجَ الإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ أَنَسٍ -رضي اللَّه عنه- أَنَّهُ قَالَ: . . . فَمَا رَأَيْتُ يَوْمًا قَطُّ أَنْوَرَ وَلَا أَحْسَنَ مِنْ يَوْمِ دَخَلَ رَسُولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وَأَبُو بَكْرٍ المَدِينَةَ.


وَكَانَ رَسُولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لَا يَمُرُّ بِدَارٍ مِنْ دُورِ الأَنْصَارِ إِلَّا أَخَذُوا حبل رَاحِلَتِهِ قَائِلِينَ: هَلُمَّ يَا رَسُولَ اللَّه إِلَى العَدَدَ وَالعُدَّةِ وَالمَنَعَةِ، فَكَانَ يَقُولُ لَهُمْ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "خَلُّوا سَبِيلَهَا فَإِنَّهَا مَأْمُورَةٌ"، وَلَمْ تَزَلْ نَاقَتُهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- سَائِرَةً بِه حَتَّى إِذَا أَتَتْ دَارَ بَنِي مَالِكِ ابنِ النَّجَارِ -وَهُوَ مَوْضِعُ المَسْجِدِ النَّبَوِيِّ اليَوْمَ- بَرَكَتْ فَلَمْ يَنْزِلْ عَنْهَا -صلى اللَّه عليه وسلم-، حَتَّى نَهَضَتْ وَسَارَتْ قَلِيلًا، ثُمَّ الْتَفَتَتْ، وَرَجَعَتْ وَبَرَكَتْ فِي مَوْضِعِهَا الأَوَّلِ، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ مَرْبِدٌ ( هو الموضع الذي يُجعل فيه التَّمر ليَنْشَف) لِلتَّمْرِ لِسَهْلٍ وَسُهَيْلٍ ابْنَيْ عَمْرٍو غُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ مِنْ بَنِي مَالِكِ بنِ النَّجَارِ، وَهُمَا فِي حِجْرِ أَسْعَدِ بنِ زُرَارَةَ -رضي اللَّه عنه-.


فَلَمَّا بَرَكَتْ نَزَلَ عَنْهَا رَسُولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَذَلِكَ فِي بَنِي النَّجَارِ أَمَامَ دَارِ أَبِي أَيُّوبَ الأَنْصَارِيِّ -رضي اللَّه عنه-، فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "هَذَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ المَنْزِلُ"، وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ تَوْفِيقِ اللَّه تَعَالَى لِلنَّاقَةِ، فَإِنَّهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَحَبَّ أَنْ يَنْزِلَ عَلَى أَخْوَالِهِ مِنْ بَنِي النَّجَارِ.

ثُمَّ قَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أَيُّ بُيُوتِ أَهْلِنَا أَقْرَبُ؟ ".

فَقَالَ أَبُو أَيُّوبَ: أَنَا يَا نَبِيَّ اللَّه، هَذِهِ دَارِي، وَهَذَا بَابِي، فَقَالَ لَهُ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "فَانْطَلِقْ فَهَيِّئْ لَنَا مَقِيلًا" (مكانا للاستراحة)، فَاحْتَمَلَ أَبُو أَيُّوبَ -رضي اللَّه عنه-، الرَحْلَ الذي كان على ناقة النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَوَضَعَهُ فِي بَيْتهِ، فَأَتَى رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّه! أَيْنَ تَحِلُّ؟


قَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "المَرْءُ مَعَ رَحْلِهِ"، وَجَاءَ أَسْعَدُ بنُ زُرَارَةَ فَأَخَذَ بِزِمَامِ ناقته -صلى اللَّه عليه وسلم- وَكَانَتْ عِنْدَهُ .

وَنَزَلَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ -رضي اللَّه عنه- عَلَى خَارِجَةَ بنِ زَيْدٍ -رضي اللَّه عنه-.

نكمل معا في الحلقة القادمة إن شاء الله تابعونا بارك الله فيكم

السبت، 30 سبتمبر 2023

قصة إسلام سلمان الفارسي رضي الله عنه

 قصة إسلام سلمان الفارسي رضي الله عنه 


وقصته طويلة وعجيبة في بحثه عن الحقيقة وعن الدين الحق وترك عبادة النار.. لنتعرف معا عليها.

بَيْنَمَا الرَّسُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي قُبَاءَ، قَدِمَ عَلَيْهِ سَلْمَانُ الفَارِسِيُّ -رضي اللَّه عنه-، وَلْنَتْرُكَ سَلْمَانَ -رضي اللَّه عنه- يُحَدِّثُنَا عَنْ قِصَّةِ إِسْلَامِهِ، يَقُولُ سَلْمَانُ -رضي اللَّه عنه-: كُنْتُ رَجَلًا فَارِسِيًّا مِنْ أَهْلِ أَصْبَهَانَ ( مدينةٌ في إيران) مِنْ أَهْلِ قَرْيَةٍ مِنْهَا يُقَالُ لَهَا: جَيُّ، وَكَانَ أَبِي رئيس القرية، وَكُنْتُ أَحَبَّ خَلْقِ اللَّهِ إِلَيْهِ، ومن شدة حُبُّهُ لي حبَسَنِي فِي بَيْتِهِ كَمَا تُحْبَسُ الجَارِيَةُ، وَاجْتَهَدْتُ فِي المَجُوسِيَّةِ (يعبُد أصحابها النار) حَتَّى كُنْتُ ملازما للنار أوقدها ولا أتركها تخبو ساعة، 

قَالَ: وَكَانَتْ لِأَبِي ضَيْعَةٌ (صنعة أو تجارة أو زراعة يعيش منها) عَظِيمَةٌ، قَالَ: فَشُغِلَ فِي بُنْيَانٍ لَهُ يَوْمًا، فَقَالَ لِي: يَا بُنَيَّ، إِنِّي قَدْ شُغِلتُ فِي بُنْيَانِ هَذَا اليَوْمِ عَنْ ضَيْعَتِي، فَاذْهَبْ هناك، وَأَمَرَنِي فِيهَا بِبَعْضِ مَا يُرِيدُ، فَخَرَجْتُ ذاهبًا إلى الضيعة، فَمَرَرْتُ بِكَنِيسَةٍ مِنْ كَنَائِسِ النَّصَارَى، فَسَمِعْتُ أَصْوَاتَهُمْ فِيهَا وَهُمْ يُصَلُّونَ، وَكُنْتُ لَا أَدْرِي مَا أَمْرُ النَّاسِ لِحَبْسِ أَبِي إِيَّايَ فِي بَيْتِهِ، فَلَمَّا مَرَرْتُ بِهِمْ، وَسَمِعْتُ أَصْوَاتَهُمْ، دَخَلْتُ عَلَيْهِمْ أَنْظُرُ مَا يَصْنَعُونَ، قَالَ: فَلَمَّا رَأَيْتُهُمْ أَعْجَبَنِي صَلَاتُهُمْ، وَرَغِبْتُ فِي دينهم، وَقُلْتُ: هَذَا وَاللَّهِ خَيْرٌ مِنَ الدِّينِ الذِي نَحْنُ عَلَيْهِ، فَوَاللَّهِ مَا تَرَكْتُهُمْ حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ، وَتَرَكْتُ ضَيْعَةَ أَبِي وَلَمْ آتِهَا،

 فَقُلْتُ لَهُمْ: أَيْنَ أَصْلُ هَذَا الدِّينِ؟

قَالُوا: بِالشَّامِ. قَالَ: ثُمَّ رَجَعْتُ إِلَى أَبِي، وَقَدْ بَعَثَ يبحث عني وَشَغَلْتُهُ عَنْ عَمَلِهِ كُلِّهِ، قَالَ: فَلَمَّا جِئْتُهُ قَالَ: أَيْ بُنَيَّ، أَيْنَ كُنْتَ؟ أَلمْ أَكُنْ عَهِدْتُ إِلَيْكَ مَا عَهِدْتُ؟ قَالَ: قُلْتُ: يَا أَبَتِ، مَرَرْتُ بِنَاسٍ يُصَلُّونَ فِي كَنِيسَةٍ لَهُمْ فَأَعْجَبَنِي مَا رَأَيْتُ مِنْ دِينِهِمْ، فَوَاللَّهِ مَا زِلْتُ عِنْدَهُمْ حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ، قَالَ: أَيْ بُنَيَّ، لَيْسَ فِي ذَلِكَ الدِّينِ خَيْرٌ، دِينُكَ وَدِينُ آبَائِكَ خَيْرٌ مِنْهُ، قَالَ: قُلْتُ: كَلَا وَاللَّهِ إِنَّهُ لَخَيْرٌ مِنْ دِينِنَا. قَالَ: فَخَافَ علي، فَجَعَلَ فِي رِجْلِي قَيْدًا، ثُمَّ حبَسَنِي فِي بَيْتِهِ.

قَالَ سَلْمَانُ: وَبَعَثْتُ إِلَى النَّصَارَى فَقُلْتُ لَهُمْ: إِذَا قَدِمَ عَلَيْكُمْ رَكْبٌ مِنَ الشَّامِ تُجَّارٌ مِنَ النَّصَارَى فَأَخْبِرُونِي بِهِمْ. قَالَ: فَقَدِمَ عَلَيْهِمْ رَكْبٌ مِنَ الشَّامِ تُجَّارٌ مِنَ النَّصَارَى، قَالَ: فَأَخْبَرُونِي بِهِمْ.

قَالَ: فَقُلْتُ لَهُمْ: إِذَا قَضَوْا حَوَائِجَهُمْ وَأَرَادُوا العودة إِلَى بِلَادِهِمْ فَأعلموني.

قَالَ: فَلَمَّا أَرَادُوا الرَّجوع إِلَى بِلَادِهِمْ أَخْبَرُونِي بِهِمْ، فَأَلْقَيْتُ الحَدِيدَ مِنْ رِجْلِي، ثُمَّ خَرَجْتُ مَعَهُمْ حَتَّى وصلت الشَّامَ، فقُلْتُ: مَنْ أَفْضَلُ أَهْلِ هَذَا الدِّينِ؟ قَالُوا: الأُسْقُفُ فِي الكَنِيسَةِ قَالَ: فَجِئْتُهُ، فَقُلْتُ: إِنِّي قَدْ رَغِبْتُ فِي هَذَا الدِّينِ، وَأَحْبَبْتُ أَنْ أَكُونَ مَعَكَ أَخْدِمُكَ في كَنِيسَتِكَ، وَأَتَعَلَّمُ مِنْكَ وَأُصَلِّي مَعَكَ، قَالَ: فَادْخُلْ، فَدَخَلْتُ مَعَهُ، قَالَ سَلْمَانُ: فَكَانَ رَجُلَ سَوْءٍ، يَأْمُرُهُمْ بِالصَّدَقَةِ وَيُرَغِّبُهُمْ فِيهَا، فَإِذَا جَمْعُوا إِلَيْهِ مِنْهَا أَشْيَاءَ، اكْتَنَزَهُ لِنَفْسِهِ، وَلَمْ يُعْطِهِ المَسَاكِينَ، حَتَّى جَمَعَ سَبْعَ قِلَالٍ ( إناءٌ كالجَرَّةِ الكبيرة) مِنْ ذَهَبٍ وَفضة، قَالَ سَلْمَانُ: وَأَبْغَضْتُهُ بُغْضًا شَدِيدًا لِمَا رَأَيْتُهُ يَصْنَعُ، ثُمَّ مَاتَ، فَاجْتَمَعَتْ إِلَيْهِ النَّصَارَى لِيَدْفِنُوهُ، فَقُلْتُ لَهُمْ: إِنَّ هَذَا كَانَ رَجُلَ سَوْءٍ يَأْمُرُكُمْ بِالصَّدَقَةِ وَيُرَغِّبُكُمْ فِيهَا، فَإِذَا جِئْتُمُوهُ بِهَا اكْتَنَزَهَا لِنَفْسِهِ وَلَمْ يُعْطِ المَسَاكِينَ مِنْهَا شَيْئًا. قَالُوا: وَمَا عِلْمُكَ بِذَلِكَ؟

قَالَ: قُلْتُ: أَنَا أَدُلُّكُمْ عَلَى كَنْزِهِ، قَالُوا: فَدُلَّنَا عَلَيْهِ، قَالَ سَلْمَانُ: فَأَرَيْتُهُمْ مَوْضِعَهُ، قَالَ سَلْمَانُ: فَاسْتَخْرَجُوا مِنْهُ سَبْعَ قِلَالٍ مَمْلُوءَةً ذَهَبًا وَفضة، قَالَ: فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا: وَاللَّهِ لَا نَدْفِنُهُ أَبَدًا، فَصَلَبُوهُ، ثُمَّ رَجَمُوهُ بِالحِجَارَةِ.


ثُمَّ جَاءُوا بِرَجُلٍ آخَرَ، فَجَعَلُوهُ بِمَكَانِهِ، قَالَ: يَقُولُ سَلْمَانُ: فكان رجلا عابدًا زاهدًا في الدنيا قَالَ سَلْمَانُ: فَأَحْبَبْتُهُ حُبًا لَمْ أُحِبَّهُ مِنْ قَبْلِهِ، فَأَقَمْتُ مَعَهُ زَمَانًا، ثُمَّ حَضَرَتْهُ الوَفَاةُ، فَقُلْتُ لَهُ: يَا فُلَانُ، إِنِّي كُنْتُ مَعَكَ وَأَحْبَبْتُكَ حُبًّا لَمْ أُحِبَّهُ مِنْ قَبْلِكَ، وَقَدْ حَضَرَكَ مَا ترَى مِنْ أَمْرِ اللَّهِ، فَإِلَى مَنْ تُوصِي بِي، وَمَا تَأْمُرُنِي؟

قَالَ: أَيْ بُنَيَّ، وَاللَّهِ مَا أَعْلَمُ أَحَدًا اليَوْمَ عَلَى مَا كُنْتُ عَلَيْهِ، لقَدْ هَلَكَ النَّاسُ وَبَدَّلُوا وَترَكُوا أَكْثَرَ مَا كَانُوا عَلَيْهِ، إِلَّا رَجُلًا بِالمَوْصِلِ (مدينة في العراق)، وَهُوَ فُلَانٌ، فَهُوَ عَلَى مَا كُنْتُ عَلَيْهِ، فَارحل إليه. قَالَ سَلْمَانُ: فَلما مات، لَحِقْتُ بِصَاحِبِ المَوْصِلِ فَقُلْتُ لَهُ: يَا فُلَانُ، إِنَّ فُلَانًا أَوْصَانِي عِنْدَ مَوْتهِ أَنْ أَلْحَقَ بِكَ، وَأَخْبَرَنِي أَنَّكَ عَلَى أَمْرِهِ. قَالَ: فَقَالَ لِي: أَقِمْ عِنْدِي فَأَقَمْتُ عِنْدَهُ، فَوَجَدْتُهُ خَيْرَ رَجُلٍ عَلَى أَمْرِ صَاحِبِهِ، فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ مَاتَ، فَلَمَّا حَضَرَتْهُ الوَفَاةُ، قُلْتُ لَهُ: يَا فُلَانُ، إِنَّ فُلَانًا أَوْصَى بِي إِلَيْكَ، وَأَمَرَنِي بِاللُّحُوقِ بِكَ، وَقَدْ حَضَرَكَ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مَا تَرَى، فَإِلَى مَنْ تُوصِي بِي، وَمَا تَأْمُرُنِي؟ قَالَ: أَيْ بُنَيَّ، وَاللَّهِ مَا أَعْلَمُ رَجُلًا عَلَى مِثْلِ مَا كُنَّا عَلَيْهِ إِلَّا رَجُلًا بِنَصِيبينَ (مدينةٌ عامرةٌ من بلاد الجزيرة العربية تمر بها القوافل)، وَهُوَ فُلَانٌ، فَالْحَقْ بِهِ.

قَالَ سَلْمَانُ: فَلَمَّا مَاتَ لَحِقْتُ بِصاحِبِ نَصِيبينَ، فَجِئْتُهُ فَأَخْبَرتُهُ خَبَرِي، وَمَا أَمَرَنِي بِهِ صَاحِبِي، قَالَ: فَأَقِمْ عِنْدِي. فَأَقَمْتُ عِنْدَهُ، فَوَجَدْتُهُ عَلَى أَمْرِ صَاحِبَيْهِ، فَأَقَمْتُ مَعَ خَيْرِ رَجُلٍ، فَوَاللَّهِ مَا لَبِثَ أَنْ نَزَلَ بِهِ المَوْتُ، فَلَمَّا حُضِرَ، قُلْتُ لَهُ: يَا فُلَانُ، إِنَّ فُلَانًا كَانَ أَوْصَى بِي إِلَى فُلَانٍ، ثُمَّ أَوْصَى بِي فُلَانٌ إِلَيْكَ، فَإِلَى مَنْ تُوصِي بِي، وَمَا تَأْمُرُنِي؟ قَالَ: أَيْ بُنَيَّ، وَاللَّهِ مَا نَعْلَمُ أَحَدًا بَقِيَ عَلَى أَمْرِنَا آمُرُكَ أَنْ تَأْتِيَهُ إِلَّا رَجُلًا بِعَمُّورِيَّةَ (مدينة في تركيا)، فَإِنَّهُ عَلَى مِثْلِ مَا نَحْنُ عَلَيْهِ، فَإِنْ أَحْبَبْتَ فَأْتِهِ، قَالَ: فَإِنَّهُ عَلَى أَمْرِنَا.


قَالَ سَلْمَانُ: فَلَمَّا مَاتَ لَحِقْتُ بِصَاحِبِ عَمُّورِيَّةَ، وَأَخْبَرتُهُ خَبَرِي، فَقَالَ: أَقِمْ عِنْدِي، فَأَقَمْتُ مَعَ رَجُلٍ عَلَى هَدْيِ أَصْحَابِهِ وَأَمْرِهِمْ، قَالَ سَلْمَانُ: وَعملت وكسبت حَتَّى كَانَ لِي بَقَرَاتٌ وَغُنَيْمَةٌ، قَالَ: ثُمَّ نَزَلَ بِهِ أَمْرُ اللَّهِ، فَلَمَّا حُضِرَ قُلْتُ لَهُ: يَا فُلَانُ، إِنِّي كُنْتُ مَعَ فُلَانٍ، فَأَوْصَى بِي فُلَانٌ إِلَى فُلَانٍ، وَأَوْصَى بِي فُلَانٌ إِلَى فُلَانٍ، ثُمَّ أَوْصَى بِي فُلَانٌ إِلَيْكَ، فَإِلَى مَنْ تُوصِي بِي؟ وَمَا تَأْمُرُنِي؟

قَالَ: أَيْ بُنَيَّ، وَاللَّهِ مَا أَعْلَمُهُ أَصْبَحَ عَلَى مَا كُنَّا عَلَيْهِ أَحَد مِنَ النَّاسِ آمُرُكَ أَنْ تَأْتِيَهُ، وَلَكِنَّهُ قَدْ أَظَلَّكَ زَمَانُ نَبِيٍّ هُوَ مَبْعُوثٌ بِدِينِ إِبْرَاهِيمَ يَخْرُجُ بِأَرْضِ العَرَبِ، مُهَاجِرًا إِلَى أَرْضٍ بَيْنَ حَرَّتَيْنِ (الحَرَّة: أرض بظاهر المدينة بها حِجَارة سُودٌ كثيرة) بَيْنَهُمَا نَخْلٌ، بِهِ عَلَامَاتٌ لَا تَخْفَى:

يَأْكُلُ الهَدِيَّةَ (كان -صلى اللَّه عليه وسلم- إذا أهدِيَت إليهِ هدية فقبِلَها، كافَأَ عليها بأكثرَ منها)، وَلَا يَأْكُلُ الصَّدَقَةَ (قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إن الصدقة لا تنبغي لآل محمد)، بَيْنَ كَتِفَيْهِ خَاتَمُ النُّبُوَّةِ (تفصيله هنا)، فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَلْحَقَ بِتِلْكَ البِلَادِ فَافْعَلْ.


قَالَ سَلْمَانُ: ثُمَّ مَاتَ، فَبقيت بِعَمُّورِيَّةَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ أبقى، ثُمَّ مَرَّ بِي نَفَرٌ مِنْ العرب تجارا، فَقُلْتُ لَهُمْ: تَحْمِلُونِي إِلَى أَرْضِ العَرَبِ، وَأُعْطِيكُمْ بَقَرَاتِي هَذِهِ وَغُنَيْمَتِي هَذِهِ؟

قَالُوا: نَعَمْ، فَأَعْطَيْتُهُمُوهَا وَحَمَلُونِي، حَتَّى إِذَا قَدِمُوا بِي وَادِي القُرَى ( وادٍ بين المدينة والشام )، ظَلَمُونِي فَبَاعُونِي إلى رَجُلٍ مِنْ يَهُودَ، فكُنْتُ عِنْدَهُ عبدًا، وَرَأَيْتُ النَّخْلَ، وَرَجَوْتُ أَنْ تَكُونَ البَلَدَ الذِي وَصَفَ لِي صَاحِبِي، فَبَيْنَمَا أَنَا عِنْدَهُ، قَدِمَ عَلَيْهِ ابنُ عَمٍّ لَهُ مِنَ المَدِينَةِ مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ فَاشتراني مِنْهُ، وأخذني معه إِلَى المَدِينَةِ، فَوَاللَّهِ مَا هُوَ إِلَّا أَنْ رَأَيْتُهَا فَعَرَفْتُهَا من وصف صَاحِبِي، فَأَقَمْتُ بِهَا وَبَعَثَ اللَّهُ رَسُولَهُ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَأَقَامَ بِمَكَّةَ مَا أَقَامَ لَا أَسْمَعُ لَهُ بِذِكْرٍ مَعَ مَا أَنَا فِيهِ مِنْ شُغْلِ الرِّقِّ والعبودية، ثُمَّ هَاجَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى المَدِينَةِ، فَوَاللَّهِ إِنِّي لَفِي نخل لِسَيِّدِي أَعْمَلُ فِيهِ بَعْضَ العَمَلِ، وَسَيِّدِي جَالِسٌ، إِذَا أَقْبَلَ ابنُ عَمٍّ له حَتَّى وَقَفَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: فُلَانُ، قَاتَلَ اللَّهُ بَنِي قَيْلَةَ (يقصد الأنصار)، وَاللَّهِ إِنَّهُمُ الْآنَ لَمُجْتَمِعُونَ بِقُبَاءَ عَلَى رَجُلٍ قَدِمَ عَلَيْهِمْ مِنْ مَكَّةَ اليَوْمَ، يَزْعُمُونَ أَنَّهُ نَبِيٌّ.

قَالَ سَلْمَانُ: فَلَمَّا سَمِعْتُهَا ارتعدت ، حَتَّى ظَنَنْتُ سَأَسْقُطُ عَلَى سَيِّدِي، وَنَزَلْتُ عَنِ النَّخْلَةِ، فَجَعَلْتُ أَقُولُ لِابنِ عَمِّهِ ذَلِكَ: مَاذَا تَقُولُ؟ مَاذَا تُقُولُ؟ .

قَالَ سَلْمَانُ: فَغَضِبَ سَيِّدِي فَلَكَمَنِي لَكْمَةً شَدِيدَةً، ثُمَّ قَالَ: مَا لَكَ وَلهَذَا! اذهب إلى عَمَلِكَ. قَالَ سَلْمَانُ قُلْتُ: لَا شَيْءَ، إِنَّمَا أَرَدْتُ أَنْ أَتبين ما قَالَ. قَالَ سَلْمَانُ: وَقَدْ كَانَ عِنْدِي شَيْءٌ قَدْ جَمَعْتُهُ، فَلَمَّا أَمْسَيْتُ أَخَذْتُهُ ثُمَّ ذَهَبْتُ بِهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَهُوَ بِقُبَاءَ، فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ، فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّهُ قَدْ بَلَغَنِي أَنَّكَ رَجُلٌ صَالِحٌ، وَمَعَكَ أَصْحَابٌ لَكَ غُرَبَاءُ ذَوُو حَاجَةٍ، وَهَذَا شَيْءٌ كَانَ عِنْدِي لِلصَّدَقَةِ، فَرَأَيْتُكُمْ أَحَقَّ بِهِ مِنْ غَيْرِكُمْ. قَالَ: فَقَرَّبْتُهُ إِلَيْهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِأَصْحَابِهِ: "كلُوا"، وَأَمْسَكَ يَدَهُ فَلَمْ يَأْكُلْ، قَالَ سَلْمَانُ: فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: هَذِهِ وَاحِدَةٌ، ثُمَّ انْصَرَفْتُ عَنْهُ فَجَمَعْتُ شَيْئًا، وَتَحَوَّلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى المَدِينَةِ، ثُمَّ جِئْتُهُ بِهِ، فَقُلْتُ: إِنِّي رَأَيْتُكَ لَا تَأْكُلُ الصَّدَقَةَ، وَهَذِهِ هَدِيَّةٌ أَكْرَمْتُكَ بِهَا. قَالَ: فَأَكَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنْهَا، وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ فَأَكَلُوا مَعَهُ، قَالَ: فَقُلْتُ في نَفْسِي: هَاتَانِ اثْنَتَانِ،

 قَالَ: ثُمَّ جِئْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَهُوَ بِبَقِيعِ الغَرْقَدِ (مكان قبور أهل المدينة)، قَالَ: وَقَدْ تَبعَ جَنَازَةً مِنْ أَصْحَابِهِ، عَلَيْهِ شَمْلَتَانِ (هو كِسَاءٌ يُتغطى به ويُتَلفف فيه) لَهُ، وَهُوَ جَالِسٌ فَي أَصْحَابِهِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، ثُمَّ اسْتَدَرْتُ أَنْظُرُ إِلَى ظَهْرِهِ، هَلْ أَرَى الخَاتَمَ الذِي وَصَفَ لِي صَاحِبِي؟

فَلَمَّا رَآنِي رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أنظر إلى ظهره، عَرَفَ أَنِّي أَتثبت من شَيْءٍ وُصِفَ لِي، قَالَ: فَأَلقى رِدَاءَهُ عَنْ ظَهْرِهِ، فنَظَرْتُ إِلَى الخَاتَمِ فعرَفْتُهُ، فَانَكَبَبْتُ عَلَيْهِ أُقَبِّلُهُ وَأَبْكِي، وقَصَصْتُ عَلَيْهِ قصتي فَأَعْجَبَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَنْ يَسْمَعَ ذَلِكَ أَصْحَاُبهُ.

ثُمَّ شَغَلَ سَلْمَانَ الرِّقُّ حَتَّى فَاتَهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- غزوة بَدْرٌ وَغزوة أُحُدٌ.

قَالَ سَلْمَانُ: ثُمَّ قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "كَاتِبْ  يَا سَلْمَانُ" والمكاتبة أن يتفق الرجل مع عَبْده على مالٍ يؤدِّيه إليه ، فإذا أدَّاه صارَ حُرًّا، يقول سلمان كَاتَبْتُ سيدي عَلَى ثَلَاثِ مِئَةِ نَخْلَةٍ أُحْيِيهَا لَهُ أي يزرعها له وَبِأَرْبَعِينَ أُوقِيَّةً (الأوقية هي أربعون دِرْهمًا.)، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِأَصْحَابِهِ: "أَعِينُوا أَخَاكُمْ"، فَأَعَانُونِي بِالنَّخْلِ: الرَّجُلُ بِثَلَاثِينَ نخلة صغيره، وَالرَّجُلُ بِعِشْرِينَ، وَالرَّجُلُ بِخَمْسَ عَشْرَةَ، وَالرَّجُلُ بِعَشْرَةٍ -يَعْنِي: الرَّجُلُ بِقَدْرِ مَا عِنْدَهُ- حَتَّى اجْتَمَعَتْ لِي ثَلَاثُ مِئَةِ نخلة صغيرة، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "اذْهَبْ يَا سَلْمَانُ فَاحفر لَهَا، فَإِذَا فَرَغْتَ فَأْتني أَكُونُ أَنَا أَضَعُهَا بِيَدِي".


قَالَ سَلْمَانُ: فَحفرت لَهَا، وَأَعَانَنِي أَصْحَابِي، حَتَّى إِذَا فَرَغْتُ مِنْهَا جِئْتُهُ فَأَخْبَرْتُهُ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مَعِي إِلَيْهَا فَجَعَلْنَا نُقَرِّبُ لَهُ النخل الصغير وَيَضَعُهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِيَدِهِ، فَوَالذِي نَفْسُ سَلْمَانَ بِيَدِهِ، مَا مَاتَتْ مِنْهَا نخلة وَاحِدَةٌ، فَأَدَّيْتُ النَّخْلَ، وَبَقِيَ عَلَيَّ المَالُ، فَأُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِمِثْلِ بَيْضَةِ الدَّجَاجَةِ مِنْ ذَهَبٍ مِنْ بَعْضِ الْمَغَازِي، فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَا فعلَ الفَارِسِيُّ المُكَاتَبُ؟ "، قَالَ: فَدُعِيتُ لَهُ، فَقَالَ: "خُذْ هَذِهِ فَأَدِّ بِهَا مَا عَلَيْكَ يَا سَلْمَانُ"، فَقُلْتُ: وَأَيْنَ تَقَعُ هَذِهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ مِمَّا عَلَيَّ؟ يعني أنها أقل كثيرا مما عليه 

قَالَ رسول الله: "خُذْهَا، فَإِنَّ اللَّهَ سَيُؤَدِّي بِهَا عَنْكَ"، قَالَ سَلْمَانُ: فَأَخَذْتُهَا فَوَزَنْتُ لَهُمْ مِنْهَا -وَالذِي نَفْسُ سَلْمَانَ بِيَدِهِ- أَرْبَعِينَ أُوقِيَّة، فَأَوْفَيْتُهُمْ حَقَّهُمْ وَعَتَقْتُ، فَشَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- الخَنْدَقَ، ثُمَّ لَمْ يَفُتْنِي مَعَهُ مَشْهَدٌ.

رضي الله عن سلمان وعن الصحابة أجمعين ..


الاثنين، 11 سبتمبر 2023

وصول النبي صلى الله عليه وسلم إلى قباء واستقبال الأنصار له -قصة الهجرة الحلقة السادسة-

 قَبْلَ قُدُومِ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- المَدِينَةَ، لَقِيَ الزُّبَيْرَ بنَ العَوَّامِ -رضي اللَّه عنه-، فِي رَكْبٍ مِنَ المُسْلِمِينَ، كَانُوا تُجَارًا راجعين في قافلة مِنَ الشَّامِ، فكَسَا الزُّبَيْرُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَأَبَا بَكْرٍ ثِيَابًا بَيَاض.


نُزُولُ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وصَاحِبِهِ أَبِي بَكْرٍ -رضي اللَّه عنه- فِي قُبَاءَ

قُبَاء: بضم القاف، سُمِّيت بذلك لوجودِ بِئْرٍ هناكَ عُرفت القرية بها، وهي مساكن بني عمرِو بنِ عوفٍ من الأنصار، وهي قرية على بعد ميلينِ من المدينةِ.

وَكَانَ الأَنْصَارُ لَمَّا بَلَغَهُمْ مَخْرَجُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنْ مَكَّةَ مُهَاجِرًا إِلَى المَدِينَةِ، يَخْرُجُونَ كُلَّ يَوْمٍ إِذَا صَلُّوا الصُّبْحَ إِلَى الحَرَّةِ ( أرضٌ بظاهرِ المدينةِ بها حجارة سُود كثيرة.) يَنْتَظِرُونَهُ أَوَّلَ النَّهَارِ، فَإِذَا اشْتَدَّ الحَرُّ رَجَعُوا إِلَى مَنَازِلهِمْ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الِاثْنَيْنِ الثَّانِي عَشَرَ مِنْ رَبِيعِ الأَوَّلِ سَنَةَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ مِنَ البِعْثَةِ -وَهِيَ السَّنَةُ الأُولَى مِنَ الهِجْرَةِ، المُوَافِق الثَّالِثِ وَالعِشْرِينَ مِنْ سِبْتَمْبَرَ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَعِشْرِينَ وَسِتُمِائَةٍ مِنَ المِيلَادِ- خَرَجُوا عَلَى عَادَتِهِمْ، فَلَمَّا حَمِيَ الحَرُّ رَجَعُوا،

 فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى بُيُويهِمْ طَلع رَجُلٌ مِنْ يَهُودَ إلى مكان عالٍ في حصن لهم لِأَمْرٍ يَنْظُرُ إِلَيْهِ، فَرَأَى رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَأَصْحَابَهُ يلبسون ثيابا بيض، فَلَمْ يَمْلِكِ اليَهُودِيُّ أَنْ صَرَخَ بِأَعْلَى صَوْتِهِ: يَا مَعْشَرَ العَرَبِ ، هَذَا جَدُّكُمْ (جدكم: بفتح الجيم أي حَظكم، وصاحبُ دَوْلَتكم الذي تتوقَّعُونه.) الذِي تَنْتَظِرُونَ، فَثَارَ المُسْلِمُونَ إِلَى السِّلَاحِ، فتَلَقَّوْا رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِظَهْرِ الحَرَّةِ، وَسُمْعَتِ الرَّجَّةُ (أي الحركة الشديدة) وَالتَّكْبِيرُ فِي بَنِي عَمْرِو بنِ عَوْفٍ، وَكَبّرَ المُسْلِمُونَ فَرَحًا بِقُدُومِ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَخَرَجُوا لِلِقَائِهِ، فَتَلَقَّوْهُ وَحَيَّوْهُ بِتَحِيَّةِ النُّبُوَّةِ، 

فَجعل مَنْ جَاءَ مِنَ الأَنْصَارِ، مِمَّنْ لَمْ يَرَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يظنون أن أبا بكر هو الرسول، حَتَّى أتت الشَّمْسُ على رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَأَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ حَتَّى ظَلَّلَ عَلَيْهِ بِرِدَائِهِ، فَعَرَفَ النَّاسُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-عِنْدَ ذَلِكَ، فتجمعوا حَوْلَهُ، وَالسَّكِينَةُ تَغْشَاهُ، وَالوَحْيُ يَنْزِلُ عَلَيْهِ: {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} (سورة التحريم).

لم يتعرف الأنصار على رسول الله في أول الأمر لأنه -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يَكُن مَلِكًا، ولا يلبسُ الحَرِير، ولا تلوحُ عليه شاراتُ المُلْك، ولا يتألقُ على جبينه التَّاج، بل كان عَبْدًا للَّه مُتَواضعًا، يَلْبَسُ ما يلبسُ الناس، ويأكلُ ما يأكلونَ، ويَجُوع إن جاعوا، ويشْبَع إن شَبِعوا عليه الصلاة والسلام.


* مَنْزِلُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَصَاحِبِهِ:

نزلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلَى كُلْثُومِ بنِ الهِدْمِ أَحَدِ بَنِي عَمْرِو بنِ عَوْفٍ وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ عَزَبًا لَا أَهْلَ له .أَمَّا أَبُو بَكْرٍ -رضي اللَّه عنه-، فنَزَلَ عَلَى خَارِجَةَ بنِ زَيْدٍ، أَخِي بَنِي الحَارِثِ بنِ الخَزْرَجِ 

*فَضْلُ وَمَكَانَةُ المُهَاجِرِينَ



 كَانَتِ الهِجْرَةُ النُّقْطَةَ الفَاصِلَةَ فِي التَّارِيخِ بَيْنَ عَهْدٍ مُظْلِمٍ مُضْطَرِبٍ تُحْتَضَرُ فِيهِ الحَضَارَةُ، وَعَهْدٍ زَاهِرٍ سَعِيدٍ وُلدَتْ فِيهِ حَضَارَةٌ جَدِيدَةٌ أَضَاءَتْ لِلْعَالَمِ طَرِيقَ المَجْدِ وَالفَلَاحِ، وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَانَ المُهَاجِرُونَ الذِينَ تركُوا دُورَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ، وَبِلَادَهُمْ وَأَوْطَانَهُمْ، وَخَرَجُوا مُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَفْضَلَ المُسْلِمِينَ، وَأَعْلَاهُمْ مَنْزِلَةً، وَأَكْثرهُمْ ثَوَابًا.

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} (سورة الحشر).

قَالَ الإِمَامُ البَغَوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: خَرَجُوا إِلَى دَارِ الهِجْرَةِ طَلَبًا لِرِضَا اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ .

وَقَالَ قَتَادَةُ: هَؤُلَاءَ المُهَاجِرِينَ الذِينَ تركُوا الدِّيَارَ وَالأَمْوَالَ وَالعَشَائِرَ وَخَرَجُوا حُبًّا للَّهِ وَلرَسُولهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَاخْتَارُوا الإِسْلَامَ برغم ما عانوه مِنْ شِدَّهٍ، حَتَّى ذُكِرَ لَنَا أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ يربط الحَجَرَ عَلَى بَطْنِهِ مِنَ الجُوعِ، وَكَانَ الرَّجُلُ لا يملك ما يحتمي به من البرد في الشتاء.


* هِجْرَةُ عَلِيِّ بنِ أَبِي طَالِبٍ -رضي اللَّه عنه-:

أَمَّا عَلِيُّ بنُ أَبِي طَالِبٍ -رضي اللَّه عنه-، فَقَدْ أَقَامَ بِمَكَّةَ ثَلَاثَ لَيِالٍ وَأَيَّامِهَا، حَتَّى أَدَّى عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- الوَدَائِعَ التِي كَانَتْ عِنْدَهُ لِلنَّاسِ، ثُمَّ لَحِقَ بِرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَأَدْرَكَهُ فِي قُبَاءَ، فنَزَلَ مَعَهُ عند كُلْثُومِ بنِ الهِدْمِ -رضي اللَّه عنه-.


* هِجْرَةُ صُهَيْبٍ الرُّومِيِّ -رضي اللَّه عنه-:

لَمَّا أَرَادَ صُهَيْبُ بنُ سِنَانٍ الرُّومِيُّ -رضي اللَّه عنه- الهِجْرَةَ مِنْ مَكَّةَ إِلَى المَدِينَةِ، صَدَّهُ نَاسٌ مِنْ كُفَّارِ قُرَيْشٍ، قَالُوا له: أَتَيْتَنَا صُعْلُوكًا  أي فقيرا حَقِيرًا، فكَثُرَ مَالُكَ عِنْدَنَا، وَبَلَغْتَ الذِي بَلَغْتَ، ثُمَّ تُرِيدُ أَنْ تَخْرُجَ بِمَالِكَ وَنَفْسِكَ، وَاللَّهِ لَا يَكُونُ ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُمْ صهَيْبٌ -رضي اللَّه عنه-: أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلْتُ لَكُمْ مَالِي أَتُخْلُونَ سَبِيلِي؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: أُشْهِدُكُمْ أَنِّي جَعَلْتُ لَكُمْ مَالِي.

قَالَ صُهَيْبٌ -رضي اللَّه عنه-: وَخَرَجْتُ حَتَّى قَدِمْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- في قُبُاءَ، فَلَمَّا رَآنِي قَالَ: "يَا أَبَا يَحْيَى! رَبِحَ البَيْعُ" ثَلَاثًا، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا سَبَقَنِي إِلَيْكَ أَحَدٌ، وَمَا أَخْبَرَكَ إِلَّا جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ.

وَفيهِ نَزَل قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} (سورة البقرة).

وَبَيْنَمَا الرَّسُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي قُبَاءَ، قَدِمَ عَلَيْهِ سَلْمَانُ الفَارِسِيُّ -رضي اللَّه عنه- الذي سنتعرف على قصة إسلامه العجيبة في الحلقة القادمة إن شاء الله.



بناء المسجد النبوي

  الحَيَاةُ فِي المَدِينَةِ المُنَوَّرَةِ يُمْكِنُ تَقْسِيمُ العَهْدِ المَدَنِيِّ إلى ثَلَاثِ مَرَاحِلَ: ١ - مَرْحَلَةٌ أُثِيرَتْ فِيهَا الق...