‏إظهار الرسائل ذات التسميات من مبعث النبي وحتي الهجرة. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات من مبعث النبي وحتي الهجرة. إظهار كافة الرسائل

الأربعاء، 31 مايو 2023

أول من هاجر من الصحابة رضي الله عنهم ومحنة ام سلمة رضي الله عنها

أول من هاجر من الصحابة رضي الله عنهم:


كانت أُمُّ سَلَمَةَ واسْمُهَا هِنْدُ بِنْتُ أَبِي أُمَيَّةَ بنِ المُغِيرَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا هي أول امرأة هاجرت إلى المدينة وقد تعرضت لمحنة كبيرة.

* مِحْنَةُ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا:

وَلْنَتْرُكْ أُمَّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا تَرْوِي لَنَا قِصَّةَ هِجْرَتِهَا مَعَ زَوْجِهَا وَابْنِهَا -رضي اللَّه عنهم- أَجْمَعِينَ، تَقُولُ أُمُّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: لَمَّا أَجْمَعَ أَبُو سَلَمَةَ الخُرُوجَ إِلَى المَدِينَةِ جهز بَعِيرَهُ ، ثُمَّ حَمَلَنِي عَلَيْهِ، وَحَمَلَ مَعِي ابْنِي سَلَمَةَ بنَ أَبِي سَلَمَةَ فِي حِجْرِي، ثُمَّ خَرَجَ بِي يَقُودُ بِي بَعِيرَهُ، فَلَمَّا رَأَتْهُ رِجَالُ بَنِي المُغِيرَةِ بنِ عَبْدِ اللَّهِ بنِ عُمَرَ بنِ مَخْزُومٍ (أهلها) قَامُوا إِلَيْهِ، فَقَالُوا: هَذِهِ نَفْسُكَ غَلَبْتَنَا عَلَيْهَا، أَرَأَيْتَ زوجتك هَذِهِ، عَلَامَ نَتْرُكُكَ تَسِيرُ بِهَا فِي البِلَادِ؟ قَالَتْ: فنَزَعُوا حبل البَعِيرِ مِنْ يَدِهِ، فَأَخَذُونِي مِنْهُ، قَالَتْ: وَغَضِبَ عِنْدَ ذَلِكَ بَنُو عَبْدِ الأَسَدِ، أهل أَبِي سَلَمَةَ، فَقَالُوا: لَا وَاللَّهِ، لَا نَتْرُكُ ابْنَنَا عِنْدَهَا إِذْ نَزَعْتُمُوهَا مِن زوجها، قَالَتْ: فتَجَاذَبُوا ابْنِي سَلَمَةَ بَيْنَهُمْ، حَتَّى خَلَعُوا يَدَهُ، وَأخذه بَنُو عَبْدِ الأَسَدِ،

وَحبَسَنِي بَنُو المُغِيرَةِ عِنْدَهُمْ، وَانْطَلَقَ زَوْجِي أَبُو سَلَمَةَ إِلَى المَدِينَةِ، قَالَتْ: فَفُرِّقَ بَيْنِي وَبَيْنَ زَوْجِي وَبَيْنَ ابْنِي، قَالَتْ: فكُنْتُ أَخْرُجُ كُلَّ صباح فَأَجْلِسُ بِالأَبْطَحِ (وادي مكة)، فَمَا أَزَالُ أَبْكِي، حَتَّى أُمْسِي، سَنَةٍ أَوْ قَرِيبًا مِنْهَا، حَتَّى مَرَّ بِي رَجُلٌ مِنْ بَنِي عَمِّي، أَحَدِ بَنِي المُغِيرَةِ، فَرَأَى مَا بِي، فَرَحِمَنِي، فَقَالَ لِبَنِي المُغِيرَةِ: أَلَا ترحمون هَذِهِ المِسْكِينَةِ؟ فَرَّقْتُمْ بَيْنَهَا وَبَيْنَ زَوْجِهَا وَبَيْنَ وَلَدِهَا، قَالَتْ: فَقَالُوا لِي: الْحَقِي بِزَوْجِكِ إِنْ شِئْتِ، قَالَتْ: وَرَدَّ بَنُو عَبْدِ الأَسَدِ إِلَيَّ عِنْدَ ذَلِكَ ابْنِي، قَالَتْ: فَارْتَحَلْتُ بَعِيرِي، ثُمَّ أَخَذْتُ ابْنِي فَوَضَعْتُهُ فِي حِجْرِي، ثُمَّ خَرَجْتُ أُرِيدُ زَوْجِي بِالمَدِينَةِ، قَالَتْ: وَمَا مَعِي أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ،
 فَقُلْتُ: أَتَبْلَّغُ بِمَنْ لَقِيتُ حَتَّى أصل إلى زَوْجِي، حَتَّى إِذَا كُنْتُ بِالتَّنْعِيمِ (مكان بمكة) لَقِيتُ عُثْمَانَ بنَ طَلْحَةَ بنِ أَبِي طَلْحَةَ -رضي اللَّه عنه-، أَخَا بَنِي عَبْدِ الدَّارِ، وهو يومئذ مشرك فَقَالَ لِي: إِلَى أَيْنَ يَا بْنَتَ أَبِي أُمَيَّةَ؟
 فَقُلْتُ: أُرِيدُ زَوْجِي بِالمَدِينَةِ، قَالَ: أَوَ مَا مَعَكِ أَحَدٌ؟  قُلْتُ: لَا وَاللَّهِ، إِلَّا اللَّهُ وَابْنِي هَذَا، قَالَ: وَاللَّهِ مَالَكِ مِنْ مَتْرَكٍ، أي لا أتركك تسافرين بمفردك فَأَخَذَ حبل البَعِيرِ، فَانْطَلَقَ مَعِي يسرع بِي، فَوَاللَّهِ مَا صَحِبْتُ رَجُلًا مِنَ العَرَبِ قَطُّ، أَرَى أَنَّهُ كَانَ أَكْرَمَ مِنْهُ، كَانَ إِذَا بَلَغَ المَنْزِلَ (المكان الذي يستريحون فيه) أَنَاخَ البعير لأنزل ، ثُمَّ اسْتَأْخَرَ عَنِّي "أي ذهب بعيدا حتى تنزل "، حَتَّى إِذَا نَزَلْتُ اسْتَأْخَرَ بِبَعِيرِي، فَحَطَّ عَنْهُ -أَيْ الرَّحْلَ- ثُمَّ قَيَّدَهُ فِي الشَّجَرِةِ، ثُمَّ تَنَحَّى عَنِّي إِلَى شَجَرَةٍ، فنام تَحْتَهَا، فَإِذَا جاء موعد الرحيل  قَامَ إِلَى بَعِيرِي فَقَدَّمَهُ ووضع عليه الرحال، ثُمَّ اسْتَأْخَرَ عَنِّي، فَقَالَ: ارْكَبِي، فَإِذَا رَكِبْتُ وَاسْتَوَيْتُ عَلَى بَعِيرِي أَتَى فَأَخَذَ بِخِطَامِهِ "حبله"، فَقَادَهُ حَتَّى يَنْزِلَ بِي، فَلَمْ يَزَلْ يَصْنَعُ ذَلِكَ بِي حَتَّى أَقْدَمَنِي المَدِينَةَ، 
فَلَمَّا نَظَرَ إِلَى قَرْيَةِ عَمْرِو بنِ عَوْفٍ بِقُبَاءَ قَالَ: زَوْجُكِ فِي هَذِهِ القَرْيَةِ -وَكَانَ أَبُو سَلَمَةَ بِهَا نَازِلًا- فَادْخُلِيهَا عَلَى بَرَكَةِ اللَّهِ، ثُمَّ انْصَرَفَ رَاجِعًا إِلَى مَكَّةَ.

فَكَانَتْ أُمُّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا تَقُولُ: وَاللَّهِ مَا أَعْلَمُ أَهْلَ بَيْتٍ فِي الإِسْلَامِ أَصَابَهُمْ مَا أَصَابَ آلَ أَبِي سَلَمَةَ، وَمَا رَأَيْتُ صَاحِبًا قَطُّ أَكْرَمَ مِنْ عَثْمَانَ  بنِ طَلحَة .أسلَمَ عثمَانُ بن طلحَةَ -رضي اللَّه عنه- بعد الحُدَيْبِيَةِ، وهاجر إلى المدينة، ودفع إليه رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يوم فتح مكةَ مفاتيح الكعبة.

قَالَ الدُّكْتُورُ مُحَمَّدُ أَبُو شَهْبَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَإِنَّ لَنَا هُنَا لَوَقْفَةً عِنْدَ قِصَّةِ عُثْمَانَ هَذَا، فَقَدْ كَانَ يَوْمَئِذٍ كَافِرًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُسْلِمْ إِلَّا بَعْدَ الحُدَيْبِيَةِ، وَهِيَ تَشْهَدُ لِمَا ذَكَرْتُهُ مِنْ نَفَاسَةِ مَعْدَنِ العَرَبِ، وَفَضائِلِهِمْ فِي الجَاهِلِيَّةِ، وَلَا سِيَّمَا خُلُقَ المُرُوءَةِ وَالنَّجْدَةِ، وَحِمَايَةِ الضَّعِيفِ، فَقَدْ أَبَتْ عَلَيْهِ مُرُوءَتُهُ وَخُلُقُهُ العَرَبِيُّ الأَصِيلُ أَنْ يَدَعَ امْرَأَةً شَرِيفَةً تَسِيرُ وَحْدَهَا فِي هَذِهِ الصَّحْرَاءَ المُوحِشَةِ، وَإِنْ كَانَتْ عَلَى غَيْرِ دِينِهِ.

 هِجْرَةُ عَامِرِ بنِ رَبِيعَةَ وَزَوْجِهِ:

ثُمَّ كَانَ أَوَّلَ مَنْ قَدِمَ المَدِينَةَ بَعْدَ أَبِي سَلَمَةَ: عَامِرُ بنُ رَبِيعَةَ حَلِيفُ بَنِي عَدِيِّ بنِ كَعْبٍ، وَمَعَهُ امْرَأَتُهُ لَيْلَى بِنْتُ أَبِي حَثَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، 

* هِجْرَةُ بَنِي جَحْشٍ:

ثُمَّ هَاجَرَ عَبْدُ اللَّهِ بنَ جَحْشٍ حَلِيفُ بَنِي أُمَيَّةَ بنِ عَبْدِ شَمْسٍ،هاجر بِأَهْلِهِ وَبِأَخِيهِ أَبُو أَحْمَدَ عَبْدُ بنُ جَحْشٍ، وَكَانَ مَعَهُمَا مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ اللَّهِ بنِ جَحْشٍ، وَكَذَلِكَ هَاجَرَ نِسَاؤُهُمْ: زَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ، وَحَمْنَةُ بِنْتُ جَحْشٍ، وَأُمُّ حَبِيبَةَ بِنْتُ جَحْشٍ، 
فَغُلِّقَتْ دَارُ بَنِي جَحْشٍ بِسَبَبِ الهِجْرَةِ، فَمَرَّ بِهَا عُتْبَةُ بنُ رَبِيعَةَ، وَالعَبَّاسُ بنُ عَبْدِ المُطَّلِبِ، وَأَبُو جَهْلِ بنُ هِشَامٍ، وَهُمْ مُصْعِدُونَ إِلَى أَعْلَى مَكَّةَ، فنَظَرَ إِلَيْهَا عُتْبَةُ بنُ رَبِيعَةَ وقال أَصْبَحَتْ دَارُ بَنِي جَحْشٍ خَلَاءً مِنْ أَهْلِهَا، فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ لِلْعَبَّاسِ: هَذَا مِنْ عَمَلِ ابنِ أَخِيكَ هَذَا، فَرَّق جَمَاعَتَنَا، وَشَتَّتَ أَمْرَنَا، وَقَطَعَ بَيْنَنَا.

قَالَ الشَّيْخُ مُحَمَّدٌ الغَزَالِي: وَأَبُو جَهْلٍ بِهَذَا الْكَلَامِ تَبْرُزُ فِيهِ طَبَائِعُ الطُّغَاةِ كامِلَةً، فَهُمْ يُجْرِمُونَ وَيَرْمُونَ الْوِزْرَ عَلَى أَكْتَافِ غَيْرِهِمْ، وَيَقْهَرُونَ الْمُسْتَضْعَفِينَ.

* هِجْرَةُ مُصْعَبٍ، وَابنِ أُمِّ مَكْتُومٍ، وَبِلَالٍ، وَسَعْدٍ، وَعَمَّارٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ:

ثُمَّ خَرَجَ الصَّحَابَةُ -رضي اللَّه عنهم- أَرْسَالًا يَتْبَعُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، فَهَاجَرَ مُصْعَبُ بنُ عُمَيْرٍ، وَعَمْرُو بنُ أُمِّ مَكْتُومٍ، وَكَانَا يُقْرِئَانِ القُرْآنَ لِلأَنْصَارِ، وَبِلَالُ بنُ رَبَاحٍ، وَسَعْدُ بنُ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ.

* هِجْرَةُ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ وَعَيَّاشِ بنِ أَبِي رَبِيعَةَ فِي رَكْبٍ مِنَ المُسْلِمِينَ:

رَوَى الإِمَامُ البُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ وَالإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ مِنْ حَدِيثِ البَرَاءَ بنِ عَازِبٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: . . . ثُمَّ قَدِمَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ فِي عِشْرِينَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- .
 مِنْهُمْ: زَيْدَ بنَ الخَطَّابِ، وَسَعِيدَ بنَ زَيْدٍ، وَعَمْرَو بنَ سُرَاقَةَ، وَأَخَاهُ عَبْدَ اللَّهِ، وَوَاقِدَ بنَ عَبْدِ اللَّهِ، وَخَالِدَ، وَإِيَاسَ، وَعَامِرَ، وَعَاقِلَ بَنِي البُكَيْرِ، وَخُنَيْسَ بنَ حُذَافَةَ -وَكَانَ زَوْجَ حَفْصَةَ بِنْتِ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ-، وَعَيَّاشَ بنَ أَبِي رَبِيعَةَ، وَخَوْليَّ بنَ أَبِي خَوْلي، وَمَالِكَ بنَ أَبِي خَوْلي، وَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ مِنْ أَقَارِبِ عُمَرَ -رضي اللَّه عنه- وَحُلفَائِهِمْ.

وَكَانَتْ قُرَيْشٌ كُلَّمَا عَلِمَتْ بِأَحَدٍ يُرِيدُ الهِجْرَةَ آذَتْهُ، وَحَاوَلَتْ فِتْنَتَهُ أَوْ حَبْسَهُ، وَلذَلِكَ لَمْ يَكُنْ أَحَد يَجْرُؤُ عَلَى الخُرُوجِ إِلَّا خُفْيَةً.

* قِصَّةُ أَبِي جَهْلٍ مَعَ عَيَّاشٍ بن أبي ربيعة -رضي اللَّه عنه-:

 خَرَجَ أَبُو جَهْلٍ بنُ هِشَامٍ وَأَخُوهُ الحَارِثُ إِلَى عَيَّاشِ بنِ أَبِي رَبِيعَةَ -رضي اللَّه عنه-، وَكَانَ ابنَ عَمِّهِمَا وَأَخَاهُمَا لِأُمِّهِمَا، حَتَّى قَدِمَا المَدِينَةَ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لَا يَزَالُ بِمَكَّةَ، فَكَلَّمَ أَبُو جَهْلٍ عَيَّاشًا، وَقَالَ لَهُ: إِنَّ أُمَّكَ نَذَرَتْ أَنْ لَا يَمَسَّ رَأْسَهَا مِشْطٌ حَتَّى تَرَاكَ، وَلَا تَسْتَظِلَّ عَنْ شَمْسٍ حَتَّى تَرَاكَ، فَرَقَّ لَهَا، 
فَقَالَ لَهُ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ -رضي اللَّه عنه-: يَا عَيَّاشُ، إِنَّه وَاللَّهِ مَا يُرِيدُكَ القَوْمُ إِلَّا لِيَفْتِنُوكَ عَنْ دِينِكَ فَاحْذَرْهُمْ،  فَقَالَ لَهُ عَيَّاشٌ: أَبَرُّ قَسَمَ أُمِّي، وَلِي هُنَاكَ مَالٌ فَآخُذُهُ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: وَاللَّهِ إِنَّكَ لَتَعْلَمُ أَنِّي لَمِنْ أَكْثَرِ قُرَيْشٍ مَالًا، فَلَكَ نِصْفُ مَالِي، وَلَا تَذْهَبْ مَعَهُمَا، وَلَكِنَّهُ أصر أن يَخْرُجَ مَعَهُمَا،
 فَقَالَ لَهُ -رضي اللَّه عنه-:إِذْا أردت الذهاب معهما، فَخُذْ نَاقَتِي هَذِهِ، فَإِنَّهَا نَاقَةٌ نَجِيبَةٌ ذَلُولُ (لينة سهلة)، فاركبها ولا تنزل ، فَإِنْ رَابَكَ مِنَ القَوْم رَيْبٌ (أي شككت بأمرهما)، فَانْجُ عَلَيْهَا.أي أسرع بالهرب 

فَخَرَجَ عَلَيْهَا مَعَهُمَا، حَتَّى إِذَا كَانُوا في الطَّرِيقِ، قَالَ أَبُو جَهْلٍ: يَا ابْنَ أَخِي، وَاللَّهِ لَقَدِ اسْتَغْلَظْتُ بَعِيرِي هَذَا، أَفَلَا تُعْقِبَنِي (يريده أن ينزل فيركب هو الناقة) عَلَى نَاقَتِكَ هَذِهِ؟

قَالَ عَيَّاشٌ: بَلَى، فنزل عَيَّاشٌ، ونزلا أيضا ، فَلَمَّا اسْتَوَوْا بِالأَرْضِ هجموا عَلَيْهِ، فَأَوْثَقَاهُ، وَرَبَطَاهُ، ثُمَّ دَخَلَا بِهِ مَكَّةَ،  وَكَانَ دُخُولُهُمَا بِهِ مَكَّة نَهَارًا مُوثَقًا، فَصَارَا يَقُولَانِ: يَا أَهْلَ مَكَّةَ، هَكَذَا فَافْعَلُوا بِسُفَهَائِكُمْ، كَمَا فَعَلْنَا بِسَفِيهِنَا هَذَا.

* دُعَاءُ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِعَيَّاشٍ -رضي اللَّه عنه-:

وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَدْعُوا لِعَيَّاشِ بنِ أَبِي رَبِيعَةَ -رضي اللَّه عنه-، وَغَيْرِهِ مِنَ المُسْتَضْعَفِينَ مِنَ المُؤْمِنِينَ، فَقَدْ أَخْرَجَ البخاري ومسلم فِي صَحِيحَيْهِمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَقُولُ: حِينَ يَفْرَغُ مِنْ صَلَاةِ الفَجْرِ مِنَ القِرَاءَةِ، وَيُكَبِّرُ، وَيَرْفَعُ رَأْسَهُ: "سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، رَبَّنَا وَلَكَ الحَمْدُ"، ثُمَّ يَقُولُ، وَهُوَ قَائِمٌ: "اللَّهُمَّ أَنْجِ الوَلِيدَ بنَ الوَلِيدِ (أخو خالد بن الوليد)، وَسَلَمَةَ بنَ هِشَامٍ (أخو أبو جهل)، وَعَيَّاشَ بنَ أَبِي رَبِيعَةَ، وَالمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ المُؤْمِنِينَ".

وَهَكَذَا لَمْ يَمْضِ شَهْرَانِ أَوْ أَكْثَرُ عَلَى بَيْعَةِ العَقَبَةِ الثَّانِيَةِ حَتَّى لَمْ يَبْقَ بِمَكَّةَ مِنَ المُسْلِمِينَ إِلَّا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَأَبُو بَكْرٍ وَعَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَوْ مَفْتُون مَحْبُوسٌ، أَوْ مَرِيضٌ، أَوْ ضَعِيفٌ عَنِ الخُرُوجِ

 نكمل مع في الحلقة القادمة استعداد رسول الله للهجرة وتآمر قريش على قتله.

الأحد، 14 مايو 2023

خصائص المدينة المنورة والاستعداد للهجرة


*خَصَائِصَ المَدِينَةِ المُنَوَّرَةِ:

كَانَ مِنْ حِكْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي اخْتِيَارِ المَدِينَةِ دَارًا لِلْهِجْرَةِ، وَمَرْكَزًا لِلدَّعوَةِ، عَدَا مَا أَرَادَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ إِكْرَامِ أَهْلها، وَأَسْرَار لَا يَعلَمُها إِلَّا اللَّهُ أُمُورٌ، مِنْهَا:

١ - أَنَّهَا امْتَازَتْ بِتَحَصُّنٍ طَبِيعِيٍّ حَربِيٍّ، لَا تُزَاحِمُها فِي ذَلِكَ مَدِينَةٌ قَرِيبَةٌ فِي الجَزِيرَةِ، فكَانَتْ تحيط بها من الناحية الغربية ومن الناحية الشرقية مناطق تسمى حَرَّةُ وهي الأرضُ ذاتُ الحِجَارة السُّود،التي لا يصلح فيها المشي على الأقدام ولا سير الخيول والإبل ولا الجيوش وَكَانَتِ المَنْطِقَةُ الشَّمَالِيَّةُ مِنَ المَدِينَةِ، هِيَ النَّاحِيَةَ الوَحِيدَةُ المَكْشُوفَةُ (وهي المنطقة التي حصنها رسول الله بحفر الخندق كما سنعرف فيما بعد).


حرات المدينة


٢ - كَانَتِ الجِهاتُ الأُخْرَى مِنْ أَطْرَافِ المَدِينَةِ مُحَاطَةً بِأَشْجَارِ النَّخِيلِ، وَالزُّرُوعِ الكَثِيفَةِ، لَا يَمُرُّ مِنْهَا الجَيْشُ إِلَّا فِي طُرُقٍ ضَيِّقَةٍ.

٤ - كَانَ أَهْلُ المَدِينَةِ مِنَ الأوْسِ وَالخَزْرَجِ أَصْحَابَ نَخْوَةٍ وَإِبَاءٍ وعزة وَفُرُوسِيَّةٍ، وَقُوَّةٍ، وَعزيمة ، ألِفوا الحُرِّيَّةَ، وَلمْ يَخْضَعُوا لِأَحَدٍ ولم يجرؤ أحد ممن جاوروهم أن يسلب منهم شيئا رغما عنهم

فكَانَتِ المَدِينَةُ -لِكُلِّ ذَلِكَ- أَصْلَحَ مَكَانٍ لهِجْرَةِ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَأَصْحَابِهِ، وَاتِّخَاذِهِمْ لَهَا دَارًا وَقَرَارًا، حَتَّى يَقْوَى الإِسْلَامُ، وَيَشُقَّ طَرِيقَهُ إِلَى الأَمَامِ، وَيَفْتَحَ الجَزِيرَةَ.

*الاستعداد للهجرة:

لَمَّا رجع رِجَالُ العَقَبَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، طَابَتْ نَفْسُهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُ مَنَعَةً وَقَوْمًا أَهْلَ حَرْبٍ وَعُدَّةٍ وَنَجْدَةٍ،

وأخذ البَلَاء يَشْتَدُّ عَلَى المُسْلِمِينَ مِنَ المُشْرِكِينَ لِمَا يَعْلَمُونَ مِنْ خُرُوجِهِمْ إِلَى المَدِينَةِ، فَضَيَّقُوا عَلَيْهِمْ، وَنَالُوا مِنْهُمْ مَا لَمْ يَكُوُنوا يَنَالُونَ مِنَ الشَّتْمِ وَالأَذَى، فَشَكَا ذَلِكَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَاسْتَأْذَنُوهُ في الهِجْرَةِ.

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إِنِّي أُرِيتُ دَارَ هِجْرَتِكُمْ، ذَاتَ نَخْلٍ بَيْنَ لَابَتَيْنِ، وَهُمَا الحَرَّتَانِ" (الأرض ذات الحجارة السوداء)، ثُمَّ مَكَثَ أَيَّامًا ثُمَّ خَرَجَ إِلَى أَصْحَابِهِ مَسْرُورًا، فَقَالَ: "قَدْ أُخْبِرْتُ بِدَارِ هِجْرَتِكُمْ وَهِيَ يَثْرِبُ، فَقنْ أَرَادَ الخُرُوجَ فَلْيَخْرُجْ إِلَيْهَا" 

ثُمَّ إِنَّهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَمَرَ جَمِيعَ المُسْلِمِينَ بِالهِجْرَةِ إِلَى المَدِينَةِ، وَاللُّحُوقِ بِإِخْوَانِهِمْ مِنَ الأَنْصَارِ، فَقَالَ لَهُمْ: "إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ جَعَلَ لَكُمْ إِخْوَانًا وَدَارًا تَأْمَنُونَ بِهَا". فَخَرَجُوا جماعات ومتفرقين، مُتَخَفِّينَ، مُشَاةً، وَرُكْبَانًا.

وَأَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِمَكَّةَ يَنْتَظِرُ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ رَبُّهُ فِي الخُرُوجِ مِنْ مَكَّةَ، وَالهِجْرَةِ إِلَى المَدِينَةِ.

* هِجْرَةُ مُهَاجِرِي الحَبَشَةِ إِلَى المَدِينَةِ:

وَحِينَ سَمِعَ مَنْ بِالحَبَشَةِ مِنَ المُسْلِمِينَ هِجْرَةَ إِخْوَانِهِمْ إِلَى المَدِينَةِ رَجَعَ مِنْهُمْ ثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ رَجُلًا وَثَمَانِيَ نِسْوَةٍ، فَمَاتَ مِنْهُمْ رَجُلَانِ بِمَكَّةَ، وَحُبِسَ بِمَكَّةَ سَبْعَةُ مِنْهُمْ: هِشَامُ بنُ العَاصِ بنِ وَائِلٍ، وَسَلَمَةُ بنُ هِشَامِ بنِ المُغِيرَةِ، وَهَاجَرَ البَاقُونَ إِلَى المَدِينَةِ، وَبَقِيَ بِأَرْضِ الحَبَشَةِ جَعْفَرُ بنُ أَبِي طَالِبٍ، وَحَاطِبُ بنُ الحَارِثِ، وَمَعْمَرُ بنُ عَبْدِ اللَّهِ العَدَوِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ، حَالَتْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- الحَرْبُ التِي وَقَعَتْ بَيْنَ النَّجَاشِيِّ، وَمَنْ خَرَجُوا عَلَيْهِ، ثُمَّ قَدِمُوا عَلَى الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَامَ خَيْبرَ سَنَةَ سَبْعٍ لِلْهِجْرَةِ كَمَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ .

* المَصَاعِبُ التِي وَاجَهَهَا المُهَاجِرُونَ -رضي اللَّه عنهم-:


لَمْ تَكُنْ هِجْرَةُ المُسْلِمِينَ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ هَيِّنَةً سَهْلَةً، تَسْمَعُ بِهَا قُرَيْشٌ، وَترضى بها، بَلْ كَانُوا يَضَعُونَ العَرَاقِيلَ فِي سَبِيلِ الِانْتِقَالِ مِنْ مَكَّةَ إِلَى المَدِينَةِ، وَيعذبون المُهَاجِرِينَ ليتراجعوا عن فكرة الخروج ولكن المهاجرين فضلوا الهجرة عن البَقَاءَ فِي مَكَّةَ، . . . رغم علمهم أَنَّ مَعْنَى الهِجْرَةِ إِهْدَارُ المَصَالِحِ، وَالتَّضْحِيَةُ بِالأَمْوَالِ، وَالنَّجَاةُ بِأنفسهم فحسب، رغم سيرهم نحو مستقبل غامض لا يدرون ما سيحدث لهم ضحوا بأموالهم وبيوتهم واستقرارهم في سبيل الله.


نكمل معا في الحلقة القادمة إن شاء الله أحداث الهجرة وأول من هاجر من الصحابة رضي الله عنهم . 


الأربعاء، 26 أبريل 2023

شيطان يصرخ ويكشف البيعة لقريش وماذا فعل الأنصار بعد عودتهم للمدينة بعد البيعة؟

نتابع معا أحداث بيعة العقبة الثانية :


بيعة العقبة الثانية 
know the prophet of Islam


شيطان يصرخ  يريد أن يكشف المعاهدة لقريش 

يقول كعبُ بنُ مَالِكٍ -رضي اللَّه عنه-: فَلَمَّا بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، صَرَخَ الشَّيْطَانُ مِنْ رَأْسِ العَقَبَةِ بِأَنْفَذِ صَوْتٍ سَمِعتُهُ قَطُّ: يَا أَهْلَ الجَبَاجِبِ -وَالجَبَاجِبُ: المَنَازِلُ- هَلْ لَكُمْ فِي مُذَمَّمٍ (كان الكفارُ من قُرَيش من شِدَّة كَرَاهتِهِم في النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لا يُسَمُّونه باسمه الدَّالِّ على المدحِ فيعدِلُونَ إلى ضِدِّه فيقولون مُذَّمم) وَالصُّبَاةُ (الخارجون عن دينكم ) مَعَهُ؟ قَدْ اجْتَمَعُوا عَلَى حَرْبِكُمْ.


فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "هَذَا أَزَبُّ (اسم شيطان العقبة) العَقَبَةِ، هَذَا ابنُ أَزْيَبَ، اسْمَعْ أَيْ عَدُوَّ اللَّهِ، أَمَا وَاللَّهِ لَأَفْرَغَنَّ لَكَ".


* صِدْقُ الأَنْصَارِ -رضي اللَّه عنهم- فِي بَيْعَتِهِمْ:

فَقَالَ العَبَّاسُ بنُ عُبَادَةَ بنَ نَضْلَةَ -رضي اللَّه عنه- لَلرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: وَالذِي بَعَثَكَ بِالحَقِّ، إِنْ شِئْتَ لَنَمِيلَنَّ عَلَى أَهْلِ مِنى غَدًا بِأَسْيَافِنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لَمْ نُؤْمَرْ بِذَلِكَ، وَلَكِنْ ارجِعُوا إِلَى رِحَالِكُمْ".

فَرَجَعُوا إِلَى رِحَالهم وَنَامُوا حَتَّى أصبَحُوا.


* قُرَيْشٌ تَبْحَثُ عَنِ الأخْبَارِ عِنْدَ رُؤَسَاءِ يَثْرِبَ:

وَلَمَّا وصل هَذَا الخَبَرُ إلى آذَانَ قُرَيْشٍ وَقَعَتْ فِيهِمْ ضَجَّة أثَارَتِ القَلَاقِلَ وَالأحْزَانَ، لأَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى مَعرِفَةٍ تَامَّةٍ مِنْ عَوَاقِبِ مِثْلِ هَذِهِ البَيْعَةِ وَنتائِجِهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، فَمَا إِنْ أَصْبَحُوا حَتَّى تَوَجَّة وَفْدٌ كَبِيرٌ مِنْ زُعَمَاءَ مَكَّةَ وَأَكَابِرِ مُجْرِمِيهَا إِلَى مَنَازِلِ أَهْلِ يَثْرِبَ فِي مِنًى، فَقَالُوا: يَا مَعْشَرَ الخَزْرَجِ! إِنَّهُ قَدْ بَلَغَنَا أَنَّكُمْ قَدْ جِئْتُمْ إِلَى صَاحِبِنَا (يقصدون النبي) هَذَا تَسْتَخْرِجُونَهُ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِنَا، وَتُبَايِعُونَهُ عَلَى حَرْبِنَا، وَإِنَّهُ وَاللَّهِ مَا مِنْ حَيٍّ مِنَ العَرَبِ أَبْغَضُ إِلَيْنَا أَنْ تَنْشُبَ الحَرْبُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ مِنْكُمْ .


فَانْبَعَثَ مِنْ هُنَاكَ مِنْ مُشْرِكِي الخَزْرَجِ يِحْلِفُونَ بِاللَّهِ: مَا كَانَ مِنْ هَذَا شَيْءٌ، وَمَا عَلِمْنَاهُ، حَتَّى إِنَّهُم -أَيْ زُعَمَاءُ قُرَيْشٍ- أَتوْا عَبْدَ اللَّهِ بنَ أُبَيِّ بنِ سَلُولٍ، فَجَعَلَ يَقُولُ: هَذَا بَاطِلٌ، وَمَا كَانَ هَذَا، وَمَا كَانَ قَوْمِي ليفعلوا هذا دون الرجوع إلى ّ، لَوْ كُنْتُ بِيَثْرِبَ مَا صَنَعَ قَوْمِي هَذَا حَتَّى يُؤَامِرُوني.

أَمَّا المُسْلِمُونَ فنَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، ثُمَّ لَاذُوا بِالصَّمْتِ، فَلَمْ يَتَحَدَّثْ أَحَدٌ مِنْهُمْ بِنَفْيٍ أَوْ إثْبَاتٍ.

وَصَدَّقَ زُعَمَاءُ قُرَيْشٍ المُشْرِكِينَ مِنْ يَثْرِبَ، فَرَجَعُوا خَائِبِينَ.


* تَأَكُّدُ قُرَيْشٍ مِنْ صِحَةِ الخَبرِ وَمُلَاحَقَتُهَا المُبَايِعِينَ:

وتفرق النَّاسُ مِنْ مِنًى، فتتبعت قُرَيْشٌ الخَبَرَ، فَوَجَدُوا أَنَّ الخَبَرَ صَحِيحٌ، وَالبَيْعَةُ قَدْ تَمَّتْ فِعلًا، فَخَرَجُوا ليلحقوا بمن بايعوا ، فَأَدْرَكُوا سَعْدَ بنَ عُبَادَةَ، وَالمُنْذِرَ بنَ عَمرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَكِلَاهُمَا كَانَ نَقِيبًا، فَأَمَّا المُنْذِرُ بنُ عَمرٍو فَأَعْجَزَ القَوْمَ، وَاسْتَطَاعَ أَنْ يَفِرَّ، وَأَمَّا سَعْدُ بنُ عُبَادَةَ فَأَخَذُوهُ، فَرَبَطُوا يَدَيْهِ إِلَى عُنُقِهِ، ثُمَّ أَقْبَلُوا بِهِ حَتَّى أَدْخَلُوهُ مَكَّةَ يَضْرِبُونَهُ، وَيَجْذِبُونَهُ بِشَعْرِهِ، وَكَانَ ذَا شَعْرٍ كَثِيرٍ.


قَالَ سَعْدٌ: فَوَاللَّهِ إِنِّي لَفِي أَيْدِيهِمْ إِذْ طَلَعَ عَلَيَّ نَفَرٌ مِنْ قُرَيْشٍ، فِيهِمْ رَجُلٌ وَضِيءٌ أَبْيَضُ، فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: إِنْ يَكُ عِنْدَ أَحَدٍ مِنَ القَوْمِ خَيْرٌ، فَعِنْدَ هَذَا، فَلَمَّا دَنَا مِنِّي رَفَعَ يَدَهُ فَلَكَمَنِي لَكْمَةً شَدِيدَةً، فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: لَا وَاللَّهِ مَا عِنْدَهُم بَعْدَ هَذَا مِنْ خَيْرٍ،

 قَالَ سَعدٌ: فَوَاللَّهِ إِنِّي لَفِي أَيْدِيهِم يَسْحَبُونَنِي إِذْ رق لِي رَجُلٌ مِمَّنْ كَانَ مَعَهُم، فَقَالَ: وَيْحَكَ! ! أَمَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ أَحَدٍ مِنْ قُرَيْشٍ جِوَارٌ وَلَا عَهْدٌ؟ لينقذك فَقَالَ سَعْدٌ: بَلَى وَاللَّهِ، لَقَدْ كُنْتُ أُجِيرُ لِحُبَيْرِ بنِ مُطْعِمِ بنِ عَدِيٍّ تُجَّارَهُ، وَأَمْنَعُهُم مِمَّنْ أَرَادَ ظُلْمَهُم بِبلَادِي، وَلِلْحَارِثِ بنِ حَرْبِ بنِ أُمَيَّةَ، فَقَالَ لَهُ: وَيْحَكَ! ! فَاهْتِفْ بِاسْمِ الرَّجُلَيْنِ، وَاذْكُر مَا بَيْنَكَ وَبَيْنَهُمَا، قَالَ: فَفَعَلْتُ، وَخَرَجَ ذَلِكَ الرَّجُلُ إِلَيْهِمَا، فَوَجَدَهُمَا فِي المَسْجِدِ عِنْدَ الكَعْبَةِ، فَقَالَ لَهُمَا: إِنَّ رَجُلًا مَنَ الخَزْرَجِ الآنَ يُضْرَبُ بِالأَبْطَحِ (مكان بمكة) يَهْتِفُ بِكُمَا، وَيَذْكُرُ أَنَّ بَيْنَهُ وَبَيْنَكُمَا جِوَارًا، قَالَا: مَنْ هُوَ؟


قَالَ: سَعْدُ بنُ عُبَادَةَ، قَالَا: صَدَقَ وَاللَّهِ، إِنْ كَانَ لَيُجِيرُ لَنَا تُجَّارَنَا، وَيَمْنَعُهُمْ أَنْ يُظْلَمُوا بِبَلَدِهِ، قَالَ: فَجَاءَا فَخَلَّصَا سَعدًا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِم، فَانْطَلَقَ، وَكَانَ الذِي لَكَمَ سعْدًا، سُهيْلُ بنُ عَمرٍو (سُهيل بن عَمرو أسلم -رضي اللَّه عنه- في فتح مكة وحسن إسلامه)، وَالرَّجُلُ الذِي رق لَهُ أَبَا البَخْتَرِيِّ بنَ هِشَامٍ (قُتِل كَافرًا في غزوة بدر الكبرى).


وَكَانَتِ الأَنْصَارُ قرروا حِينَ فَقَدُوا سَعْدًا -رضي اللَّه عنه-، أَنْ يرجعوا إِلَيْهِ، فَإِذَا هُوَ قَدْ رجع إليهم، فَرَحَلَ القَوْمُ جَمِيعًا إِلَى المَدِينَةِ.

وكان لبيعة  العقبة فضل عظيم في انتشار الإسلام وخطوة نحو بناء خير أمة أخرجت للناس.


* إِسْلَامُ عَمْرِو بنِ الجَمُوحِ -رضي اللَّه عنه- :

لَمَّا رَجَعَ الأَنْصَارُ الذِينَ بَايَعُوا رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- ليْلَةَ العَقَبَةِ الثَّانِيَةِ إِلَى المَدِينَةِ أَظْهرُوا الإِسْلَامَ بِهَا، وَدَعَوْا أَهْلِيهِم إِلَيْهِ، وَكَانَ فِي قَوْمِهِم بَقَايَا مِنْ شُيُوخٍ لَهُمْ عَلَى دِينهِم مِنَ الشِّرْكِ، مِنْهُمْ عَمْرُو بنُ الجَمُوحِ -رضي اللَّه عنه- مِنْ سَادَاتِ بَنِي سَلِمَةَ وَأَشْرَافِهِمْ، وَكَانَ ابْنُهُ مُعَاذٌ شَهِدَ العَقَبَةَ، وَبَايَعَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِهَا.

وَكَانَ عَمْرٌو قَدْ اتَّخَذَ فِي دَارِهِ صَنَمًا مَنْ خَشَبٍ، يُقَالُ له (مَنَاةٌ)، كَمَا كَانَ الأَشْرَافُ يَصْنَعُونَ، فَلَمَّا أَسْلَمَ فِتْيَانُ بَنِي سَلِمَةَ: مُعْاذُ بنُ جَبَلٍ، وَابْنُهُ مُعَاذُ بنُ عَمْرٍو، فِي فِتْيَان مِنْهُمْ مِمَّنْ أَسْلَمَ وَشَهِدَ العَقَبَةَ، كَانُوا يدخلون بِاللَّيْلِ عَلَى صَنَمِ عَمرِو بنِ الجَمُوحِ، فَيَحْمِلُونَهُ، فيلقونه فِي بَعْضِ حُفَرِ بَنِي سَلِمَةَ، وَفِيهَا فضلات النَّاسِ، مُنَكَّسًا عَلَى رَأْسِهِ، فَإِذَا أصبَحَ عَمْرٌو، قَالَ: وَيْلَكُمْ! ! مَنْ عَدَا عَلَى إِلَهِنَا هَذِهِ اللَّيْلَةَ؟ ثُمَّ يذهب للبحث عنه حَتَّى إِذَا وَجَدَهُ غَسَّلَهُ وَطَهَّرَهُ وَطَيَّبَهُ، ثُمَّ قَالَ لِلصَّنَمِ: أَمَا وَاللَّهِ لَوْ أَعلَمُ مَنْ فَعَلَ بِكَ هَذَا لَأُخْزِيَنَّهُ، فَإِذَا أَمْسَى وَنَامَ عَمْرٌو عَدَوْا عَلَيْهِ، فَفَعَلُوا بِهِ مِثْلَ ذَلِكَ، فَيَغْدُو فَيَجِدُهُ فِي مِثْلِ مَا كَانَ فِيهِ مِنَ الأَذَى، فَيُغَسِّلُهُ وَيُطَهِّرُهُ وَيُطَيِّبُهُ، ثُمَّ يَعْدُونَ عَلَيْهِ إِذَا أَمْسَى، فَيَفْعَلُونَ بِهِ مِثْلَ ذَلِكَ.

فَلَمَّا كرروا ما فعلوه اسْتَخْرَجَهُ مِنْ حَيْثُ أَلْقَوْهُ يَوْمًا، فَغَسَّلَهُ وَطَهَّرَهُ وَطَيَّبَهُ، ثُمَّ جَاءَ بِسَيْفِهِ فَعَلَّقَهُ عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ لِلصَّنَمِ: إِنِّي وَاللَّهِ لَا أَعلَمُ مَنْ يَصْنَعُ بِكَ مَا أَرَى، فَإِنْ كَانَ فِيكَ خَيْرٌ فَامْتَنِعْ، فَهَذَا السَّيْفُ مَعَكَ، فَلَمَّا أَمْسَى وَنَامَ عَمْرٌو عَدَوْا عَلَيْهِ، فَأَخَذُوا السَّيْفَ فِي عُنقهِ، ثُمَّ أَخَذُوا كَلْبًا مَيْتًا فَقَرَنُوهُ بِهِ بِحَبْلٍ، ثُمَّ أَلْقَوْهُ فِي بِئْرٍ مِنْ آبَارِ بَنِي سَلِمَةَ فِيهَا عِذَرُ النَّاسِ، وَغَدَا عَمْرُو بنُ الجَمُوحِ فَلَمْ يَجِدْهُ فِي مَكَانِهِ الذِي كَانَ بِهِ، فَخَرَجَ يَتْبَعُهُ حَتَّى وَجَدَهُ فِي تِلْكَ البِئْرِ مُنَكَّسًا مَقْرُونًا بِكَلْبٍ مَيْتٍ، فَلَمَّا رَآهُ وَأَبْصَرَ شَأْنَهُ، وَبَانَ له صَوَابُهُ، وَرَجَعَ إِلَيْه عَقْلُهُ، وَعَلِمَ أَنَّهَا أَصْنَامٌ لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ، فَمَا إِنْ كَلَّمَهُ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ قَوْمِهِ حَتَّى أَسْلَمَ، وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ -رضي اللَّه عنه-،


في الحلقة القادمة إن شاء الله سنتعرف على خصائص المدينة والاستعداد للهجرة المباركة . 

تابعونا باك الله فيكم 

الأربعاء، 29 مارس 2023

أحداث بيعة العقبة الثانية

 بَيْعَةُ العَقَبَةِ الثَّانِيَةِ



لَمَّا اقْتربَ مَوْسِمُ الحَجِّ مِنَ السَّنَةِ الثَّالِثَةِ عَشْرَةَ لِلْبِعثَةِ اجْتَمَعَ ثَلَاثَةٌ وَسَبعُونَ رَجُلًا مِنَ الأنْصَارِ فَقَالُوا: حَتَّى مَتَى نترك رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يُطْرَدُ فِي جِبَالِ مَكَّةَ وَيَخَافُ؟ .

فتَوَاعَدُوا عَلَى المَسِيرِ إِلَى الحَجِّ، وَمُلَاقَاةِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَخَرَجُوا مَعَ حُجَّاجِ قَوْمِهِم مِنْ أَهْلِ الشِّركِ، وَهُمْ خَمْسُمِائَةٍ، حَتَّى قَدِمُوا مَكَّةَ مَعَ الحَجِيجِ فِي مَنَازِلِهِمْ مُسْتَخْفِينَ بِإِسْلَامِهْمْ، وَكَانَ مَعَهُمْ مُصْعَبُ بنُ عُمَيْرٍ -رضي اللَّه عنه-، فَلَمَّا قَدِمَ مَكَّةَ جَاءَ مَنْزِلُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَوَّلًا، وَلَمْ يَقْرَبْ مَنْزِلَهُ، فَجَعَلَ يُخْبِرُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَن الأنْصَارِ، وَسُرعَتِهِمْ إِلَى الإِسْلَامِ، وَيَقُصُّ عَلَيْهِ خَبَرَ قَبَائِلِ يَثْرِبَ، وَمَا لَهَا مِنْ قُوةٍ وَمَنَعَةٍ، فَفرح  رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِذَلِكَ، وَدَعَا لهُ.


ثُمَّ جَرَتْ بَيْنَ الأَنْصَارِ الثَّلَاثَةِ وَالسَّبْعُونَ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- اتِّصَالَاتٌ سِرِيَّةٌ أَدَّتْ إِلَى اتِّفَاقِ الفَرِيقَيْنِ عَلَى أَنْ يَتَجَمَّعُوا فِي أَوْسَطِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ (هي ثلاثةُ أيامٍ تَلِي عِيدَ الأضحَى، سُمِّيَتْ بذلك لأنَّ الهَدْيَ والضَّحَايا لا تُنْحَرُ حتى تُشْرِقَ الشَّمْسُ) فِي الشِّعبِ (الطريقُ في الجبَلِ) الذِي عِنْدَ العَقَبَةِ حَيْثُ الجَمْرَةُ الأولَى مِنْ مِنًى، لِإِبْرَامِ اتِّفَاقٍ هُوَ مِنْ أَعْظَمِ، وَأَهَمِّ الِاتِّفَاقِيَّاتِ فِي تَارِيخِ الإِسْلَامِ، وَأَنْ يَتِمَّ هَذَا الِاجْتِمَاعُ فِيِ سِرِيَّةٍ تَامَّةٍ فِي ظَلَامِ اللَّيْلِ.


* أحداث بَيْعَةِ العَقَبَةِ الثَّانِيَةِ:

وَلْنَتْرُكْ أَحَدَ قَادَةِ الأنْصَارِ يَصِفُ لَنَا هَذَا الِاجْتِمَاعَ التَّارِيْخِيَّ قَالَ كَعْبُ بنُ مَالِكٍ -رضي اللَّه عنه-: خَرَجْنَا إِلَى الحَجِّ مَعَ حُجَّاجِ قَوْمِنَا مِنْ المُشْرِكِينَ، وَقَدْ صَلَّيْنَا وَفَقِهْنَا، وَمَعَنَا البَرَاءُ بنُ مَعْرُورٍ كَبِيرُنَا وَسَيِّدُنَا، فَلَمَّا تَوَجَّهْنَا لِسَفَرِنَا، وَخَرَجْنَا مِنَ المَدِينَةِ. . .

 قَالَ: فَخَرَجْنَا نَسْأَلُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِمَكَّةَ، وَكُنَّا لَا نَعْرِفُهُ، لَمْ نَرَهُ قَبْلَ ذَلِكَ، فَلَقِيَنَا رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، فَسَأَلْنَاهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقَالَ: هَلْ تَعْرِفَانِهِ؟ قُلْنَا: لَا وَاللَّهِ، قَالَ: فَهَلْ تَعرِفَانِ العَبَّاسَ بنَ عَبْدَ المُطَّلِبِ، عَمَّهُ؟ قُلْنَا: نَعَمْ، وَكُنَّا نَعْرِفُ العَبَّاسَ، كَانَ لَا يَزَالُ يَقْدُمُ عَلَيْنَا تَاجِرًا.

 قَالَ: فَإِذَا دَخَلْتُمَا المَسْجِدَ، فَهُوَ الرَّجُلُ الجَالِسُ مَعَ العَبَّاسِ، تَرَكْتُهُ مَعَهُ الآنَ جَالِسًا. قَالَ كَعْبُ بنُ مَالِكٍ -رضي اللَّه عنه-: فَدَخَلْنَا المَسْجِدَ، فَإِذَا العَبَّاسُ جَالِسٌ وَرَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مَعَهُ جَالِسٌ، فَسَلَّمنَا عَلَيْهِمَا، ثُمَّ جَلَسْنَا إِلَيْهِمَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِلْعَبَّاسِ: "هَلْ تَعرِفُ هذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ يا عَبَّاسُ؟ ".

قَالَ: نَعَمْ، هذَانِ الرَّجُلَانِ مِنَ الخَزْرَجِ هَذَا البَرَاءُ بنُ مَعْرُورٍ، وَهُوَ سيد في قَوْمِهِ، وَهذَا كَعْبُ بنُ مَالِكٍ.

قَالَ كَعْبٌ: فَوَاللَّهِ مَا أَنْسَى قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "الشَّاعِرُ؟ " (كان الشِّعْرَ يُعْتَبَرُ من أهمِّ وسائِلِ الإعلام المَوْجُودَةِ في ذلكَ الوَقْتِ).

قَالَ كَعْبٌ: نَعَمْ.

قَالَ كَعْبٌ: . . . وَخَرَجْنَا إِلِى الحَجِّ، فَوَاعَدَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- العَقَبَةَ مِنْ أَوْسَطِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، فَلَمَّا فَرغنَا مِنَ الحَجِّ، وَكَانَت اللَّيْلَةُ التِي وَعَدَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَمَعَنَا عَبْدُ اللَّهِ بنُ عَمرِو بنِ حَرَامٍ، أَبُو جَابِرٍ سَيِّدٌ مِنْ سَادَاتِنَا، وَكُنَّا نَكْتُمُ  أَمْرَنَا عن باقي قومنا من المشركين ، فَكَلَّمْنَاهُ، 

وَقُلْنَا لَهُ: يَا أَبَا جَابِرٍ، إِنَّكَ سَيِّدٌ مِنْ سَادَتِنَا، وَشَرِيفٌ مِنْ أَشْرَافِنَا، وَإِنَّا نَرْغَبُ بِكَ عَمَّا أَنْتَ فِيهِ أَنْ تَكُونَ حَطَبًا لِلنَّارِ غَدًا، ثُمَّ دَعَوْتُهُ إِلَى الإِسْلَامِ، وَأَخْبَرتُهُ بِمِيعَادِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَأَسْلَمَ، وَشَهِدَ مَعَنَا العَقَبَةَ، وَكَانَ نَقِيبًا.

قَالَ كَعْبٌ: فَنِمنَا تِلْكَ اللَّيْلَةَ مَعَ قَوْمِنَا فِي رِحَالِنَا، حَتَّى إِذَا مَضَى ثُلُثُ اللَّيْلِ، وَسكن الناس ، خَرَجْنَا مِنْ رِحَالِنَا لِمِيعَادِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- نَتَسَلَّلُ مُسْتَخْفِينَ، حَتَّى اجْتَمَعنَا فِي الشِّعْبِ عِنْدَ العَقَبَةِ، وَنَحْنُ ثَلَاثَةٌ وَسَبْعُونَ، فِيهِمْ أَرْبَعُونَ رَجُلًا وَثَلَاثُونَ شَابًّا، وَمَعَنَا امْرَأَتَانِ مِنْ نِسَائِنَا: نُسَيبةُ بِنْتُ كَعْبٍ أُمُّ عُمَارَةَ ، إِحْدَى نِسَاءِ بَنِي مَازِنِ بنِ النَّجَارِ، وَأَسْمَاءُ بِنْتُ عَمرٍو أُمُّ مَنِيعٍ إِحْدَى نِسَاءِ بَنِي سَلِمَةَ.


* اسْتِيثَاقُ العَبَّاسِ لِلنَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-؛ وَعَزْمُ الأَنْصَارِ عَلَى البَيْعَةِ:

وَاجْتَمَعَت الأَنْصَارُ بِالشِّعبِ يَنتظِرُونَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- حَتَّى جَاءَهُمْ وَمَعَهُ العَبَّاسُ بنُ عَبْدِ المُطَّلِبِ، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ لا يزال عَلَى دِينِ قَوْمِهِ، إِلَّا أَنَّهُ أَحَبَّ أَنْ يَحْضُرَ أَمْرَ ابنَ أَخِيهِ، وَيطمئن عليه.

وَبَعْدَ أَنْ تَكَامَلَ المَجْلِسُ بَدَأَتْ المُحَادَثَاتُ لِإِبْرَامِ التَّحَالُفِ الدِّيِنِّي وَالعَسْكَرِيِّ، وَكَانَ أَوَّلَ المُتَكَلِّمِينَ هُوَ العَبَّاسُ بنُ عَبْدِ المُطَّلِبِ عَمُّ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، تَكَلَّمَ لِيَشْرَحَ لَهُمْ -بِكُلِّ صَرَاحَةٍ- خُطُورَةَ المَسْؤُوليَّةِ التِي سيتحملونها نَتِيجَةَ هَذَا التَّحَالُفِ. 

فَقَالَ العَبَّاسُ؛ يَا مَعشَرَ الخَزْرَجِ إِنَّ مُحَمَّدًا مِنَّا حَيْثُ قَدْ عَلِمْتُمْ، وَقَدْ مَنَعْنَاهُ مِنْ قَوْمِنَا فهُوَ في عِزٍّ مِنْ قَوْمِهِ، وَمَنَعَةٍ (أي قُوَّةٌ تَمْنَعُ مَن يريدُه بِسُوءٍ) فِي بَلَدِهِ، وإنَّهُ قَدْ أَبَى إِلَّا الِانْحِيَازَ إِلَيْكُمْ، وَاللُّحُوقَ بِكُمْ، فَإِنْ كُنْتُمْ تَرَوْنَ أَنَّكُمْ وَافُونَ له بِمَا دَعَوتُمُوهُ إِلَيْهِ، وَمَانِعُوهُ مِمَّنْ خَالفَهُ، فَأَنْتُمْ وَمَا تَحَمَّلْتُمْ مِنْ ذَلِكَ، وَإِنْ كُنْتُمْ تَرَوْنَ أَنَّكُمْ مُسْلِمُوهُ وَخَاذِلُوهُ بَعْدَ الخُرُوجِ بِهِ إِلَيْكُمْ، فَمِنَ الآنَ فَدَعُوهُ، فَإِنَّهُ فِي عِزٍّ وَمَنَعَةٍ مِنْ قَوْمِهِ وَبَلَدِهِ.

قَالَ كَعْبُ بنُ مَالِكٍ -رضي اللَّه عنه- فَقُلْنَا لَهُ: قَدْ سَمِعْنَا مَا قُلْتَ، فتَكَلَّمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَخُذْ لِنَفْسِكَ وَلرَبِّكَ مَا أَحْبَبْتَ (هذا الجواب يدلُّ على ما كانوا عليه من عَزْمٍ وتصمِيمٍ، وشجاعَةٍ وإيمانٍ وإخلاصٍ في تحمُّل هذه المسؤُوليَّةِ العظِيمة، وتحمل عَوَاقِبها الخَطِيرة).

فَتَكَلَّمَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فتَلَا عَلَيْنَا القُرْآنَ، وَدَعَا إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَرَغَّبَ فِي الإِسْلَامِ، فَأَجَبْنَاهُ، وَصَدَّقْنَاهُ، وَآمَنَّا بِهِ، وَرَضِينَا بِمَا قَالَ، ثُمَّ قَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "تُبَايِعُونِي عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي النَّشَاطِ وَالكَسَلِ، وَعَلَى النَّفَقَةِ فِي العُسْرِ وَاليُسْرِ، وَعَلَى الأمرِ بِالمَعرُوفِ وَالنَّهْي عَنِ المُنْكَرِ، وَعَلَى أَنْ تَقُولُوا فِي اللَّهِ لَا يَأْخُذُكُمْ فِيهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ، وَعَلَى أَنْ تَنْصُرُونِي إِذَا قَدِمْتُ عَلَيْكُمْ يَثْرِبَ، فتَمْنَعُونِي مِمَا تَمْنَعُونَ مِنْهُ أَنْفُسَكُمْ وَأَزْوَاجَكُمْ وَأَبْنَاءَكُمْ، وَلَكُمُ الجَنَّةُ".

فأَخَذَ البَرَاءُ بنُ مَعرُورٍ -رضي اللَّه عنه- بِيَدِهِ، ثُمَّ قَالَ: نَعَمْ، وَالذِي بَعَثَكَ بِالحَقِّ، لَنَمْنَعَكَ مِمَّا نَمْنَعُ مِنْهُ أُزُرَنَا أنفسنا وأهلنا، فبايِعنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَنَحْنُ أَهْلُ الحُرُوبِ، وَأَهْلُ السلاح والدروع، وَرِثْنَاها كَابِرًا عَنْ كَابِرٍ.

فَاعْتَرَضَ القَوْلَ -وَالبَرَاءُ يُكَلِّمُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَبُو الهَيْثَمِ بنُ التَّيِّهَانِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الرِّجَالِ -يَعنِي اليَهُودَ- عهودا ومواثيق ، وَإِنَّا قَاطِعُوهَا، فَهَلْ عَسَيْتَ إِنْ نَحْنُ فَعَلْنَا ذَلِكَ، ثُمَّ أَظْهرَكَ اللَّهُ، أَنْ تَرْجِعَ إِلَى قَوْمِكَ وَتَدَعَنَا؟ .

فتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، ثُمَّ قَالَ: "بَلِ الدَّمُ الدَّمُ، وَالهَدْمُ الهَدْمُ (كلمة مقصود بها المنزل أو القبر أي منزلي منزلكم وأقبر حيث تقبرون دليل على شدة العهد والميثاق)، أَنَا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مِنِّي، أُحَارِبُ مَنْ حَارَبْتُمْ، وَأُسَالِمُ مَنْ سَالَمْتُمْ".

فَقَالَ البَرَاءُ بنُ مَعْرُورٍ -رضي اللَّه عنه- لِلنَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: ابْسُطْ يَدَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ نُبَايِعْكَ.


* انْتِخَابُ النُّقَبَاءِ (جمع نقيب ومعناه من يمثلهم وينوب عنهم) وَعَقْدُ البَيْعَةِ:

فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أَخْرِجُوا إِلَيَّ مِنْكُمْ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا لِيَكُونُوا عَلَى قَوْمِهِمْ بِمَا فِيهِمْ".

فتَمَّ انْتِخَابُهُم فِي الحَالِ، وَكَانُوا تِسْعَةً مِنَ الخَزْرَجِ، وَثَلَاثَةً مِنَ الأوْسِ، وهم:

* نُقَبَاءُ الخَزْرَجِ:

• نَقِيبُ بَنِي النَّجَارِ:

١ - أَسْعَدُ بن زُرَارَةَ -رضي اللَّه عنه-.

• نَقِيبُ بَنِي سَلِمَةَ:

٢ - البَرَاءُ بنُ مَعْرُورٍ -رضي اللَّه عنه- 

٣ - عَبْدُ اللَّهِ بنُ عَمرِو بنِ حَرَامٍ وَالِدُ جَابِرٍ -رضي اللَّه عنه-

• نَقِيبُ بَنِي سَاعِدَةَ:

٤ - سَعْدُ بنُ عُبَادَةَ -رضي اللَّه عنه-

 ٥ - المُنْذِرُ بنُ عَمرٍو -رضي اللَّه عنه-.

• نَقِيبُ بَنِي زُرَيْقٍ:

٦ - رَافِعُ بنُ مَالِكِ بنِ العَجْلَانِ -رضي اللَّه عنه-.

• نَقِيبُ بَنِي الحَارِثِ بنِ الخَزْرَجِ:

٧ - عَبْدُ اللَّهِ بنُ رَوَاحَةَ -رضي اللَّه عنه- 

٨ - سَعْدُ بنُ الرَّبِيعِ -رضي اللَّه عنه-.

• نَقِيبُ بَنِي عَمْرِو بنِ عَوْفِ بنِ الخَزْرَجِ:

٩ - عُبَادَةُ بنُ الصَّامِتِ -رضي اللَّه عنه-.

* نُقَبَاءُ الأوْسِ:

• نَقِيبُ بَنِي عَبْدِ الأشْهَلِ:

١٠ - أُسَيْدُ بنُ حُضَيْرٍ -رضي اللَّه عنه-.

• نَقِيبُ بَنِي عَمرِو بنِ عَوْفٍ:

١١ - سَعْدُ بنُ خَيْثَمَةَ -رضي اللَّه عنه- 

١٢ - رِفَاعَةُ بنُ عَبْدِ المُنْذِر -رضي اللَّه عنه.


* التَّأْكِيدُ مِنْ خُطُورَةِ البَيْعَةِ:

وَبَعْدَ أَنْ تَمَّت المُحَادَثَةُ حَوْلَ شُرُوطِ البَيْعَةِ، وَأَجْمَعُوا عَلَى الشُّرُوعِ فِي عَقْدِهَا، قَامَ رَجُلَانِ مِنَ الرَّعِيلِ الأوَّلِ مِمَّنْ أَسْلَمَ فِي مَوَاسِمِ سَنَتَيْ الحَادِيَةِ عَشْرَةَ، وَالثَّانِيَةِ عَشْرَةَ مِنَ البِعْثَةِ، قَامَ أَحَدُهُمَا تِلْوَ الآخَرِ، لِيُؤَكِّدَا لِلْقَوْمِ خُطُورَةَ المَسْؤُوليَّةِ، حَتَّى لَا ويبايِعُوهُ إِلَّا عَلَى وُضُوحٍ مِنَ الأمْرِ، وَليَعْرِفَا مَدَى اسْتِعْدَادِ القَوْمِ لِلتَّضْحِيَةِ.

قَالَ ابنُ إِسْحَاقَ: لَمَّا اجْتَمُعوا لِلْبَيْعَةِ، قَالَ العَبَّاسُ بنُ عُبَادَةَ بنِ نَضْلَةَ -رضي اللَّه عنه-: يَا مَعْشَرَ الخَزْرَجِ! هَلْ تَدْرُونَ عَلَامَ تبايِعُونَ هَذَا الرَّجُلَ؟

قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: إِنَّكُمُ تبايِعُونَهُ عَلَى حَرْبِ الأحْمَرِ وَالأسْوَدِ مِنَ النَّاسِ، فَإِنْ كُنْتُمْ تَرَوْنَ أَنَّكُمْ إِذَا نقصت أَموَالَكُمْ مُصِيبَةٌ، وَأَشْرَافُكُمْ قَتْلًا أَسْلَمتُمُوهُ، فَمِنَ الآنَ، فَهُوَ وَاللَّهِ إِنْ فَعَلْتُم خِزْيُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَإِنْ كُنْتُمْ تَرَوْنَ أَنَّكُمْ وَافُونَ لَهُ بِمَا دَعَوْتُمُوهُ إِلَيْهِ عَلَى نقص الأمْوَالِ، وَقَتْلِ الأشْرَافِ، فَخُذُوهُ، فَهُوَ وَاللَّهِ خَيْرُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ.

قَالُوا: فَإِنَّا نَأْخُذُهُ عَلَى مُصِيبَةِ الأمْوَالِ، وَقَتْلِ الأشْرَافِ، فَمَا لَنَا بِذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ نَحْنُ وَفَّيْنَا؟ .

قَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "الجَنَّةُ"،

 قَالُوا: ابْسُطْ يَدَكَ، فَبَسَطَ يَدَهُ فَبَايَعُوهُ.


ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِلنُّقَبَاءِ: "أَنْتُمْ عَلَى قَوْمِكُمْ بِمَا فِيهِمْ كفَلَاءُ، كَكَفَالَةِ الحَوَارِيِّينَ لِعِيسَى ابنِ مَرْيَمَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، وَأَنَا كَفِيلٌ عَلَى قَوْمِي" -يَعنِي المُسْلِمِينَ-، قَالُوا: نَعَمْ.

فَقَامُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- رَجُلًا رَجُلًا، يبايعونه


* أَوَّلُ مَنْ بَايَعَ:

كانَ أَوَّلَ مَنْ ضَرَبَ عَلَى يَدَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- البَرَاءُ بنُ مَعْرُورٍ -رضي اللَّه عنه-، ثُمَّ تَتَابَعَ القَوْمُ 

* بَيْعَةُ المَرْأَتيْنِ:

فَلَمَّا فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنْ بَيْعَةِ الرِّجَالِ بَايَعَ المَرأَتيْنِ قَوْلًا مِنْ غَيْرِ مُصَافَحَةٍ، لأنَّهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- كَانَ لَا يُصَافِحُ النِّسَاءَ، وَإِنَّمَا كَانَ يَأْخُذُ عَلَيْهِنَّ، فَإِذَا أَقْرَرْنَ قَالَ: "اذْهَبْنَ فَقَدْ بَايَعتُكُنَّ".

لكن خبر البيعة قد وصل لمسامع قريش وعلموا خطورة هذا الاتفاق فماذا فعلوا هذا ما سنعرفه في الحلقة القادمة إن شاء الله فتابعونا . 

السبت، 25 مارس 2023

سبَبَ سُرعَةِ إِسْلَامِ الأنْصَارِ

 سبَبَ سُرعَةِ إِسْلَامِ الأنْصَارِ:



سَاعَدَتْ عَلَى سُرعَةِ إِسْلَامِ الأنْصَارِ عِدَّةُ عَوَامِلٍ، هِيَ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَيْسِيرِهِ وَصُنْعِهِ، كَانَتْ فَارِقَة بَيْنَ قُرَيْشٍ وَأَهْلِ مَكَّةَ، وَقبائِلِ يَثْرِبَ العَرَبِيَّةِ:


١ - مِنْهَا مَا طَبَعَها اللَّهُ عَلَيْهِ مِنَ الرِّقَّةِ وَاللِّينِ، وَعَدَمِ المُغَالَاةِ فِي الكِبْرِيَاءَ وَجُحُودِ الحَقِّ، وَذَلِكَ يَرجعُ إِلَى الخَصَائِصِ الدَّمَوِيَّةِ وَالسُّلَالِيَّةِ التِي أَشَارَ إِلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- حِينَ وَفَدَ وَفْدٌ مِنْ اليَمَنِ، بِقَوْلهِ: "أَتَاكُمْ أَهْلُ اليَمَنِ، هُمْ أَرَقُّ أَفْئِدَةً، وَأَلْيَنُ قُلُوبًا" وَهُمَا -أَيْ الأَوْسُ وَالخَزْرَجُ- تَرْجِعَانِ فِي أَصْلِهِمَا إِلَى اليَمَنِ، نَزَحَ أَجْدَادُهُمَا مِنْهَا فِي الزَّمَنِ القَدِيمِ.


٢ - وَمِنْهَا أَنَّهُمَا -أَيْ الأَوْسُ وَالخَزْرَجُ- قَدْ أَنْهكَتْهُمَا الحُرُوبُ الدَّاخِلِيَّةُ،وَمَا يَوْمُ بُعَاثٍ بِبَعِيدٍ، وَقَدْ اكْتَوَوْا بِنَارِهَا، وَذَاقُوا مَرَارَتَهَا، وَعَافُوهَا، وَنَشَأَتْ فِيهِمْ رَغْبَةٌ فِي اجْتِمَاعِ الكَلِمَةِ، وَانْتِظَامِ الشَّمْلِ، وَالتّفادِي مِنَ الحُرُوبِ، وَذَلِكَ مَا عَبَّرُوا فِيهِ بِقَوْلِهِمْ: إِنَّا قَدْ تَرَكْنَا قَوْمَنَا، وَلَا قَوْمَ بَيْنَهُمْ مِنَ العَدَاوَةِ وَالشَّرِ مَا بَيْنَهُمْ، فَعَسَى أَنْ يَجْمَعَهُمُ اللَّهُ بِكَ، فَإِنْ يَجْمَعهُمُ اللَّهُ بِكَ، فَلَا رَجُلَ أَعَزَّ مِنْكَ.


وَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: كَانَ يَوْمُ بُعَاثٍ يَوْمًا قَدَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-.


٣ - وَمِنْهَا أَنَّ قُرَيْشًا، وَسَائِرَ العَرَبِ قَدْ طَالَ عَهْدُهُم بِالنُّبُوَّاتِ وَالأنْبِيَاءِ، وَأَصْبَحُوا يَجْهَلُونَ مَعَانِيهَا بِطُولِ العَهْدِ، وَبِحُكْمِ الأُمِّيَّةِ وَالإِمْعَانِ فِي الوَثَنِيَّةِ، وَالبُعْدِ عَن الأمَمِ التِي تَنْتَسِبُ إِلَى الأَنْبِيَاءِ، وَتَحْمِلُ الكُتُبَ السَّمَاوِيَّةَ -عَلَى مَا دَخَلَ فِيهَا مِنَ التَّحْرِيفِ وَالعَبَثِ- وَذَلِكَ مَا يُشِيرُ إِلَيْهِ القُرْآنُ بِقَوْلهِ تَعَالَى: {لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ} (سورة يس).


أَمَّا الأوْسُ وَالخَزْرَجُ فكَانُوا يَسْمَعُونَ اليَهُودَ يتَحَدَّثُونَ عَن النُّبُوَّةِ وَالأنْبِيَاءِ، وَيَتْلُونَ صُحُفَ التَّوْرَاةِ وَيُفَسِّرُونَهَا، بَلْ كَانُوا يتَوَعَّدُونَهُمْ بِهِ، وَيَقُولُونَ: إِنَّهُ سَيبعَثُ نَبِيٌّ فِي آخِرِ الزَّمَانِ، نَقْتُلُكُمْ مَعَهُ قَتْلَ عَادٍ وَإِرَمٍ، وَفِي

ذَلِكَ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} (سورة البقرة).


وَبِذَلِكَ لَمْ تَكُنْ بَيْنَ أَبْنَاءِ الأوْسِ وَالخَزْرَجِ وَسُكَّانِ المَدِينَةِ مِنَ العَرَبِ المُشْرِكِينَ تِلْكَ الفَجْوَةُ العَمِيقَةُ الوَاسِعَةُ مِنَ الجَهْلِ وَالنُّفُورِ مِنَ المَفَاهِيمِ الدِّينِيَّةِ، وَالسُّنَنِ الإلهِيَّة، التِي كَانَتْ بَيْنَهَا وَبَيْنَ أَهْلِ مَكَّةَ وَجِيرَانِهِم مِنْ العَرَبِ، بَلْ قَدْ عَرَفُوهَا وَأَلِفُوهَا عَنْ طَرِيقِ اليَهُودِ وَأَهْلِ الكِتَابِ، الذِينَ كَانُوا يَخْتَلِطُونَ بِهم بِحُكْمِ البَلَدِ وَالجِوَارِ وَالصُّلْحِ وَالحَرْبِ وَالمُحَالفَاتِ، 

فَلَمَّا تَعَرَّفُوا بِرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَقَدْ حَضَرُوا المَوْسِمَ، وَدَعَاهُمْ إِلَى الإِسْلَامِ، ارْتَفَعَتْ الغِشَاوَةُ عَنْ عُيُونِهِمْ، وَكَأَنَّهُمْ كَانُوا مِنْ هَذِهِ الدَّعوَةِ عَلَى مِيعَادٍ .


* * *

موعدنا في الحلقة القادمة إن شاء الله مع بيعة العقبة الثانية والاستعداد للهجرة المباركة .

الاثنين، 27 فبراير 2023

قصة إسلام سعد بن معاذ الذي اهتز لموته عرش الرحمن



 * إِسْلَامُ سَعْدِ بنِ مُعَاذٍ وَأُسَيد بنِ حُضَيْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا:

وَكَانَ مِمَّنْ أَسْلَمَ عَلَى يَدِ مُصْعَبٍ -رضي اللَّه عنه-: سَيِّدَا بَنِي عَبْدِ الأَشْهَلِ: سَعْدُ بنُ مُعَاذٍ ، وَأُسَيْدُ بنُ حُضَيْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَبِإِسْلَامِهِمَا أَسْلَمَ جَمِيعُ بَنِي عَبْدِ الأشْهَلِ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ

 رَوَى ابْنُ إِسْحَاقَ: أَنَّ أَسْعَدَ بنَ زُرَارَةَ -رضي اللَّه عنه- خَرجَ بِمُصْعَبِ بنِ عُمَيْرٍ -رضي اللَّه عنه- يُرِيدُ بِهِ دَارَ بَنِي عَبْدِ الأشْهَلِ، وَدَارَ بَنِي ظفَرٍ، فَدَخَلَ بِهِ بستانا لبَنِي ظفَرٍ، عَلَى بِئْرٍ يُقَالُ لَهَا: بِئْرُ مَرَقٍ، فَجَلَسَا فِيه، وَاجْتَمَعَ إِلَيْهِمَا رِجَال مِمَّنْ أَسْلَمَ، وَكَانَ سَعْدُ بنُ مُعَاذٍ، وَأُسَيْدُ بنُ حُضَيرٍ يَوْمَئِذٍ سَيِّدَا قَوْمِهِمَا مِنْ بَنِي عَبْدِ الأشْهَلِ، وَكِلَاهُمَا مُشْرِكٌ عَلَى دِينِ قَوْمِهِ، فَلَمَّا سَمِعَا بِمُصْعَبِ بنِ عُمَيرٍ -رضي اللَّه عنه-، وَنَشَاطِهِ فِي الدَّعْوَةِ إِلَى الإِسْلَامِ، قَالَ سَعْدُ بنُ مُعَاذٍ لِأُسَيْدِ بنِ حُضَيرٍ: انْطَلِقْ إِلَى هذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ اللَّذَينِ قَدْ أتيا دَارَيْنَا لِيُسَفِّهَا ضُعَفَاءَنَا، فَازْجُرْهُمَا، وَانْهَهُمَا عَنْ أَنْ يَأْتِيَا دَارَيْنَا، فَإِنَّه لَوْلَا أَنَّ أَسْعَدَ بنَ زُرَارَةَ مِنِّي حَيْثُ قَدْ عَلِمتَ كَفَيْتُكَ ذَلِكَ، هُوَ ابنُ خَالَتِي، وَلَا أَجِدُ عَلَيْهِ مَقْدَمًا.


فَأَخَذَ أُسَيْدُ بنُ حُضَيْرٍ حَرْبَتَهُ ثُمَّ أَقْبَلَ إِلَيْهِمَا، فلَمَّا رَآه أَسْعَدُ بنُ زُرَارَةَ، قَالَ لِمُصْعَبِ بنِ عُمَيْرٍ: هَذَا سَيِّدُ قَوْمِهِ قَدْ جَاءَكَ، فَاصْدُقِ اللَّهَ فِيهِ، قَالَ مُصْعَبٌ: إِنْ يَجْلِسْ أُكَلِّمْهُ. فَجَاءَ أُسَيْدٌ فَوَقَفَ عَلَيْهِمَا عابس الوجه، فَقَالَ: مَا جَاءَ بِكُمَا إِلَيْنَا تُسَفّهانِ ضُعَفَاءَنَا؟ اعْتَزِلَانَا إِنْ كَانَتْ لَكُمَا بِأَنْفُسِكُمَا حَاجَةٌ، فَقَالَ لَهُ مُصْعَبٌ بِلِسَانِ المُؤْمِنِ الهادِئِ الوَاثِقِ مِنْ سَمَاحَةِ دَعْوَتِهِ: أَوَتَجْلِسُ فتَسْمَعُ، فَإِنْ رَضِيتَ أَمْرًا قَبِلْتَهُ، وَإِنْ كَرِهْتَهُ كُفَّ عَنْكَ مَا تَكْرَهُ، فَقَالَ: أُسَيْدُ بنُ حُضَيْرٍ -رضي اللَّه عنه-: أَنْصَفْتَ، ثُمَّ رَكَزَ حَربَتَهُ، وَجَلَسَ إِلَيْهِمَا، فكَلَّمَهُ مُصْعَبٌ بِالإِسلَامِ، وَقَرَأَ عَلَيْهِ القُرْآنَ.

فَقَالَا -أَيْ مُصْعَبٌ وَأَسْعَدُ بنُ زُرَارَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا-: وَاللَّهِ لَعَرَفْنَا فِي وَجْهِهِ الإِسلَامَ قَبْلَ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ فِي إِشْرَاقِهِ وَتَسَهُّلِهِ، ثُمَّ قَالَ أُسَيْدٌ: مَا أَحَسَنَ هذا الكَلَامَ وَأَجْمَلَهُ! كَيْفَ تَصْنَعُونَ إِذَا أَرَدْتُم أَنْ تَدْخُلُوا فِي هَذَا الدِّينِ؟

قَالَا لَهُ: تَغْتسِلُ فتَطَّهَرُ وَتُطَهِّرُ ثَوْبَيْكَ، ثُمَّ تَشْهَدُ شَهَادَةَ الحَقِّ، ثُمَّ تُصَلِّي، فَقَامَ فَاغْتَسَلَ وَطَهَّرَ ثَوْبَيْهِ، وَشَهِدَ شَهادَةَ الحَقِّ، ثُمَّ قَامَ فَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ قَالَ لَهُمَا: إِنَّ وَرَائِي رَجُلًا إِن اتَّبَعَكُمَا لَمْ يَتَخَلَّفْ عَنْهُ أَحَدٌ مِنْ قَوْمِهِ، وَسَأُرْسِلُهُ إِلَيْكُمَا الآنَ: سَعْدُ بنُ مُعَاذٍ.


ثُمَّ أَخَذَ حَرْبَتَهُ وَانْصَرَفَ إِلَى سَعْدٍ وَقَوْمِهِ، وَهُمْ جُلُوسٌ فِي نَادِيهِمْ (مجلسهم)، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيْهِ سَعْدُ بنُ مُعَاذٍ مُقْبِلًا، قَالَ: أَحْلِفُ بِاللَّهِ لَقَدْ جَاءَكُمْ أُسَيْدٌ بِغَيْرِ الوَجْهِ الذِي ذَهبَ بِهِ مِنْ عِنْدِكُمْ،

 فَلَمَّا وَقَفَ أُسَيْدُ بنُ حُضَيْرٍ عَلَى النَّادِي، قَالَ لَهُ سَعْدٌ: مَا فَعَلْتَ؟ .

فَقَالَ: كَلَّمْتُ الرَّجُلَيْنِ، فَوَاللَّهِ مَا رَأَيْتُ بِهِمَا بَأْسًا، وَقَدْ نَهيْتُهُمَا فَقَالَا: نَفْعَلُ مَا أَحْبَبْتَ، وَقَدْ حُدِّثْتُ أَنَّ بَنِي حَارِثَةَ خَرَجُوا إِلَى أسْعَدِ بنِ زُرَارَةَ لِيَقْتُلُوهُ، لما عرفوا أنه ابن خالتك (كان غَرَضُ أُسَيْدِ بن حُضَيْر -رضي اللَّه عنه- إثارَةُ حميَّةِ سعدِ بن مُعَاذٍ -رضي اللَّه عنه- ليَقُومَ ويذهبَ إلى أسعَدَ بنِ زُرارة -رضي اللَّه عنه- وصاحِبِهِ مُصْعَب -رضي اللَّه عنه-، ويسمع منه.)


فَقَامَ سَعْدُ بنُ مُعَاذٍ -رضي اللَّه عنه- مُغْضَبًا مُبَادِرًا، تَخَوُّفًا لِلَّذِي ذُكِر لَهُ مِنْ بَنِي حَارِثَةَ، فَأَخَذَ الحَرْبَةَ مِنْ يَدِ أُسَيْدِ بنِ حُضَيْرٍ، ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهِ مَا أَرَاكَ أَغْنَيْتَ شَيْئًا، ثُمَّ خَرَجَ إِلَيْهِمَا، فَلَمَّا رَآهُمَا سَعْدٌ مُطْمَئِنِّينَ، عَرَفَ أَنَّ أُسَيْدَ بنَ حُضَيْرٍ إِنَّمَا أَرَادَ مِنْهُ أَنْ يَسْمَعَ مِنْهُمَا، فَوَقَفَ سعدُ بنُ مُعَاذٍ عَلَى أَسْعَدِ بنِ زُرَارَةَ وَمُصْعَبِ بنِ عُمَيْرٍ عابس الوجه، ثُمَّ قَالَ لِأَسْعَدِ بنِ زُرَارَةَ: يَا أَبَا أُمَامَةَ! أَمَا وَاللَّهِ لَوْلَا مَا بَيْنِي وَبَيْنَكَ مِنَ القَرَابَةِ مَا بلغت هَذَا مِنِّي، أتَغْشَانَا فِي دَارِنَا بِمَا نَكْرَهُ؟ .


وَكَانَ أَسْعَدُ بنُ زُرَارَةَ قَدْ قَالَ لِمُصْعَبِ بنِ عُمَيْرٍ: لقَد جَاءَكَ وَاللَّهِ سَيِّدُ مَنْ وَرَاءِهِ مِنْ قَوْمِهِ، إِنْ يَتَّبِعْكَ لَا يَتَخَلَّفُ مِنْهُم اثْنَانِ.

فَقَالَ مُصْعَبٌ لِسَعْدِ بنِ مُعَاذٍ: أَوَتَقْعُدَ فتَسْمَعَ؟ فَإِنْ رَضِيتَ أَمرًا،وَرَغِبْتَ فِيهِ قَبِلْتَهُ، وَإِنْ كَرِهْتَهُ عَزَلْنَا مِنْكَ مَا تَكْرَهُ. فَقَالَ سَعْدُ بنُ مُعَاذٍ -رضي اللَّه عنه-: أَنْصَفْتَ، ثُمَّ رَكَزَ الحَرْبَةَ وَجَلَسَ فَعَرَضَ مُصْعَبٌ عَلَيْهِ الإِسْلَامَ، وَقَرَأَ عَلَيْهِ آيَاتٍ مِنْ سُورَةِ الزُّخْرُفِ:

{حم (١) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (٢) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} 


قَالَا -أَيْ مُصْعَبٌ وَأَسْعَدُ بنُ زُرَارَةَ-: فَعَرَفْنَا وَاللَّهِ فِي وَجْهِهِ الإِسْلَامَ قَبْلَ أَنْ يَتَكَلَّمَ، لِإِشْرَاقِهِ وِتَسَهُّلِهِ.


ثُمَّ قَالَ لَهُمَا: كَيْفَ تَصْنَعُونَ إِذَا أَنْتُم أَسْلَمْتُمْ، وَدَخَلْتُمْ فِي هَذَا الدِّينِ؟

قَالَا: تَغْتَسِلُ، فتَطَّهَّرُ وَتُطَهِّرُ ثِيَابَكَ، ثُمَّ تَشْهَدُ شَهَادَةَ الحَقِّ، ثُمَّ تُصَلِّي، فَقَامَ وَاغْتَسَلَ، وَطَهَّرَ ثِيَابَهُ، ثُمَّ شَهِدَ شَهَادَةَ الحَقِّ، ثُمَّ رَكَعَ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ أَخَذَ حَرْبَتَهُ، فَأَقْبَلَ عَائِدًا إِلَى نَادِي قَوْمِهِ، وَمَعَهُ أُسَيْدُ بنُ حُضَيْرٍ، فَلَمَّا رَآه قَوْمُهُ مُقْبِلًا قَالُوا: نَحْلِفُ بِاللَّهِ لَقَدْ رَجَعَ إِلَيْكُم سَعْدٌ بِغَيْرِ الوَجْهِ الذِي ذَهبَ بِهِ مِنْ عِنْدِكُمْ،

 فَلَمَّا وَقَفَ عَلَيْهِمْ قَالَ: يَا بَنِي عَبْدِ الأشْهَلِ! كَيْفَ تَعْلَمُونَ أَمْرِي فِيكُمْ؟

قَالُوا: سَيِّدُنَا وَأَفْضَلُنَا رَأْيًا،قَالَ: فَإِنَّ كَلَامَ رِجَالِكُمْ وَنسَائِكُمْ عَلَيَّ حَرَامٌ حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ.


قَالَا -أَيْ أَسْعَدُ بنُ زُرَارَةَ -رضي اللَّه عنه- وَمُصْعَبُ بنُ عُمَيْرٍ -رضي اللَّه عنه-: فَوَاللَّهِ مَا أَمْسَى فِي دَارِ بَنِي عَبْدِ الأَشْهَلِ رَجُلٌ وَلَا امْرَأَةٌ إِلَّا مُسْلِمًا وَمُسْلِمَةً إِلَّا الأُصَيْرِمُ عَمْرُو بنُ ثَابِتٍ، فَإِنَّهُ تَأَخَّرَ إِسْلَامُهُ إِلَى يَوْمِ أُحُدٍ فَأَسْلَمَ، وَاسْتُشْهِدَ بِأُحُدٍ، وَلَم يُصَلِّ للَّهِ سَجْدَةً قَطُّ، وَأَخْبَرَ رَسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ .


وَأَقَامَ مُصْعَبٌ -رضي اللَّه عنه- فِي مَنْزِلِ أَسْعَدِ بنِ زُرَارَةَ يَدعُو النَّاسَ إِلَى الإِسْلَامِ، حَتَّى لَمْ تَبْقَ دَارٌ مِنْ دُورِ الأنْصَارِ إِلَّا وَفِيهَا رِجَالٌ وَنِسَاءٌ مُسْلِمُونَ.

* * *

في الحلقة القادمة سنعرف الأسباب التي جعلت الأنصار يدخلون في الإسلام بمجرد دعوتهم إليه .

بيعة العقبة الأولى واول سفير في الإسلام



 بَيْعَةُ العَقَبَةِ الأوْلَى

لَمَّا رَجَعَ الستة الذين دعاهم رسول الله إلى الإسلام إِلَى المَدِينَةِ ذَكَرُوا لِقَوْمِهِم رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَدَعَوْهم إِلَى الإِسْلَامِ حَتَّى انتشر بينهم، فَلَمْ تَبْقَ دَارٌ مِنْ دُورِ الأنْصَارِ إِلَّا وَفِيهَا ذِكْرٌ لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، حَتَّى إِذَا كَانَ العَامُ المُقْبِلُ، وَذَلِكَ سَنَةَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ مِنَ البِعثَةِ قدم إلى مَوْسِمَ الحَجِّ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا، اثْنَانِ مِنَ الأوْسِ، وَعَشَرَةٌ مِنَ الخَزْرَجِ، فِيهِمْ خَمسَةٌ مِنَ السِّتَّةِ الذِينَ اجْتَمَعُوا بِرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي العَامِ السَّابِقِ، وَهُمْ:

• مِنَ الخَزْرَجِ مِنْ بَنِي النَّجَارِ:

 أَسْعَدُ بنُ زُرَارَةَ -رضي اللَّه عنه-

عَوْفُ وَمُعَاذُ ابْنَا الحَارِثِ وَهُمَا ابْنَا عَفْرَاءَ.

• مِنْ بَنِي زُرَيْقِ بنِ عَامِرٍ:

 رَافِعُ بنُ مَالِكٍ الْعَجْلَانِيُّ -رضي اللَّه عنه-

 ذَكْوَانُ بُن عَبْدِ قَيْسِ -رضي اللَّه عنه-.

• مِنْ بَنِي عَوْفٍ بنِ الخَزْرَجِ:

 عُبَادَةُ بنُ الصَّامِتِ -رضي اللَّه عنه-

يَزِيدُ بنُ ثَعْلَبَةَ -رضي اللَّه عنه-.

• مِنْ بَنِي سَالِمِ بنِ عَوْفٍ:

العَبَّاسُ بنُ عُبَادَةَ بنِ نَضْلَةَ -رضي اللَّه عنه- (خرج إلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وهو بمَكَّة، وقام معه حتى هاجر إلى المدينة فكان أنصَارِيًا مُهَاجِرِيًا، لم يشهَدْ بَدْرًا، وقُتِلَ -رضي اللَّه عنه- في غَزْوَةِ أحُدٍ. ).

• مِنْ بَنِي سَلِمَة:

 قُطْبَةُ بنُ عَامِرٍ -رضي اللَّه عنه-.

• مِنْ بَنِي حَرَامِ بنِ كَعبٍ:

 عُقْبَةُ بنُ عَامِرٍ -رضي اللَّه عنه-.

• مِنَ الأوْسِ مِنْ بَنِي عَبْدِ الأشْهَلِ:

 أَبُو الهَيْثَمِ بنُ التَّيِّهَانِ -رضي اللَّه عنه-.

• مِنْ بَنِي عَمرِو بنِ عَوْفٍ:

عُوَيْمُ بنُ سَاعِدَةَ -رضي اللَّه عنه-.


لَقِيَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- هَؤُلَاءِ عِنْدَ العَقَبَةِ بِمِنًى، فبايَعُوهُ 


* عَلَامَ كَانَتِ البَيْعَةُ؟ :

البيعة تعني المعاقدة والمعاهدة 


 وكَانَتْ عَلَى السَّمْعِ وَالطَاعَةِ فِي العُسْرِ وَاليُسْرِ، وَفي المَنْشَطِ وَالمَكْرَهِ، وَالأمرِ بِالمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ المُنْكَرِ وَقَولِ الحَقِّ، وَأَنْ لَا يَخَافُونَ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ، وَعَلَى الوَلَاءِ وَالنُّصرَةِ لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِذَا قَدِمَ عَلَيْهِمْ المَدِينَةَ، وَأَنْ يمنَعُوهُ مِمَّا يَمنَعُونَ مِنْهُ أَنْفُسَهم وَأَزْوَاجَهُمْ، وَأَوْلَادَهُمْ 


* أَوَّلُ جُمُعَةٍ صُليت فِي المَدِينَةِ قَبْلَ الهِجْرَةِ:

كَانَ أَوَّلَ مَنْ صَلَّى بِالنَّاسِ الجُمُعَةَ قَبْلَ مَقْدَمِ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَأَصْحَابِهِ إِلَى المَدِينَةِ هُوَ: أَسْعَدُ بنُ زُرَارَةَ -رضي اللَّه عنه-.


بَعْثُ مُصْعَبِ بنِ عُمَيرٍ -رضي اللَّه عنه- إِلَى المَدِينَةِ لِلدَّعْوَةِ إِلَى الإِسْلَامِ

أول سفير في الإسلام 

لَمَّا انْتَهَى المَوْسِمُ وَانْصَرَفَ القَوْمُ رَاجِعِينَ إِلَى بِلَادِهِمْ، بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مَعَهُمْ شَابًّا مِنْ شَبَابِ المُسْلِمِينَ، السَّابِقِينَ الأوَّلينَ إِلَى الإِسْلَامِ، وَهُوَ مُصْعَبُ بنُ عُمَيْرٍ -رضي اللَّه عنه-، وَأَمَرَهُ أَنْ يُقْرِئَهُم القُرآنَ، وَيُعَلِّمَهُمْ الإِسْلَامَ، وَيُفَقِّهَهُمْ فِي الدِّينِ، فَكَانَ مُصْعَبٌ -رضي اللَّه عنه- يُسَمَّى بِالمَدِينَةِ: المُقْرِئَ.


وَكَانَ نُزُولُ مُصْعَبٍ -رضي اللَّه عنه- بِالمَدِينَةِ عَلَى السَّيِّدِ الجَلِيلِ السَّابِقِ إِلَى الخَيْرِ أَسْعَدِ بنِ زُرَارَةَ -رضي اللَّه عنه- .


* نَجَاحُ مُصْعَبٍ -رضي اللَّه عنه- فِي مُهِمَّتِهِ:

وَقَدْ نَجَحَ مُصْعَبٌ -رضي اللَّه عنه- أَيَّمَا نَجَاحٍ فِي نَشْرِ الإِسْلَامِ، وَجَمْعِ النَّاسِ عَلَيْهِ، وَاسْتَطَاعَ أَنْ يتخَطَّى الصِّعَابَ التِي تُوجَدُ دَائِمًا فِي طَرِيقِ كُلِّ نَازِحٍ غَرِيبٍ، يُحَاوِلُ أَنْ يَنْقُلَ النَّاسَ مِنْ مَوْرُوثَاتٍ أَلِفُوها إِلَى نِظَامٍ جَدِيدٍ، يَشْمَلُ الحَاضِرَ وَالمُسْتَقْبَلَ، وَيَعُمَّ الإيمَانَ وَالعَمَلَ، وَالخُلُقَ وَالسُّلُوكَ. . . 

وَكَانَ مُصْعَبٌ -رضي اللَّه عنه-لَدَيْهِ ثَرْوَةٌ مِنَ الكِيَاسَةِ وَالفِطْنَةِ ،أخذها مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وِإِخْلَاصٌ للَّهِ، جَعَلَهُ يُضَحِّي بِمَالِ أُسْرَتِهِ وَجَاهِها فِي سَبِيلِ عَقِيدَتِهِ، . . . ثُمَّ هَذَا القُرْآنُ الذِي يَتَأَنَّقُ فِي تِلَاوَيهِ، وَيَتَخَيَّرُ مِنْ رَوَائِعِهِ مَا يَغْزُو بِهِ الألْبَابَ، فَإِذَا الأفْئِدَةُ تَرِقُّ لَهُ، وَتَنْفَتِحُ لِلدِّينِ الجَدِيدِ.

وقد أسلم على يديه العديد من الصحابة ومنهم سعد بن معاذ الذي اهتز لموته عرش الرحمن . 

وسنعرف قصة إسلامه في الحلقة القادمة إن شاء الله فتابعونا ..



الجمعة، 20 يناير 2023

يوم بعاث وبدء إسلام الأنصار

 

نكمل معا باقي الأفراد الذين عرض عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الإسلام 

إِسْلَامُ إِيَاسِ بنِ مُعَاذٍ:

كَانَ إِيَاسُ بنُ مُعَاذٍ غُلَامًا حَدَثًا مِنْ أَهْلِ يَثْرِبَ مِنْ بَنِي عَبْدِ الأشْهَلِ، قَدِمَ مَكَّةَ فِي وَفْدِ الأوْسَ يَلْتَمِسُونَ الحِلْفَ (المساندة والمساعدة) مِنْ قُرَيْشٍ عَلَى قَوْمِهِمْ مِنْ الخَزْرَجِ، وَذَلِكَ قُبَيْلَ حَرْبِ بُعَاثٍ، فنَزَلُوا عَلَى عُتْبَةَ بنِ رَبِيعَةَ، فَأَكْرَمَهُمْ وَطَلَبُوا إِلَيْهِ وَإِلَى قُرَيْشٍ أَنْ يُحَالِفُوهُمْ عَلَى قِتَالِ الخَزْرَجِ، فَسَمعَ بِهِمْ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَأَتَاهُمْ وَجَلَسَ إِلَيْهِمْ، فَقَالَ لَهُمْ: هَلْ لَكُمْ فِي خَيْرٍ مِمَّا جِئتمْ لَهُ؟ فَقَالُوا لَهُ: وَمَا ذَاكَ؟

قَالَ: أَنَا رَسُولُ اللَّهِ بَعَثَنِي إِلَى العِبَادِ، أَدْعُوهُمْ إِلَى أَنْ يَعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَأَنْزَلَ عَلَيَّ الكِتَابَ، ثُمَّ ذَكَرَ لَهُمُ الإِسْلَامَ، وَتَلَا عَلَيْهِمُ القُرْآنَ، فَقَالَ إِيَاسُ بنُ مُعَاذٍ: أَيْ قَوْمُ! هَذَا وَاللَّهِ خَيْرٌ مِمَّا جِئْتُمْ لَهُ.

فَأَخَذَ أَبُو الحَيْسَرِ، وَاسْمُهُ أَنَسُ بنُ رَافِعٍ حَفْنَةً (مِلْءُ الكَفِّ) مِنْ تُرَابِ البَطْحَاءِ فَضَرَبَ بِهَا وَجْهَ إِيَاسِ بنِ مُعَاذٍ، وَقَالَ: دَعْنَا مِنْكَ، فَلَعَمْرِي لَقَدْ جِئْنَا لِغَيْرِ هَذَا، مَا قَدِمَ وَفْدٌ إِذًا عَلَى قَوْمٍ بِشَرِّ مِمَّا قَدِمْنَا بِهِ عَلَى قَوْمِنَا، إِنَّا خَرَجْنَا نَطْلُبُ حِلْفَ قُرَيْشٍ عَلَى عَدُوِّنَا، فنَرْجعُ بِعَدَاوَةِ قُرَيْشٍ مَعَ عَدَاوَةِ الخَزْرَجِ،

 فَصَمَتَ إِيَاسٌ، وَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَنْهُمْ، وَانْصَرَفُوا إِلَى المَدِينَةِ، وَكَانَتْ وَقْعَةُ بُعَاثٍ بَيْنَ الأوْسِ وَالخَزْرَجِ، ثُمَّ لَمْ يَلْبَثْ إِيَاسُ بنُ مُعَاذٍ أَنْ هَلَكَ، وَكَانَ يُهَلِّلُ اللَّهَ تَعَالَى، وَيُكَبِّرُهُ، وَيَحْمَدُهُ، وَيُسَبِّحُهُ عِنْدَ مَوْتِهِ، فَلَا يَشُكُّ قَوْمُهُ أَنَّهُ مَاتَ مُسْلِمًا 


* يَوْمُ بُعَاثٍ:

كانت موقعة بين الأوس والخزرج في المدينة وكان هذا اليوم مقدمة لدخولهم في الإسلام بعد ذلك فقد تفرق جمعهم وقتل أشرافهم في هذه الموقعة فجاء رسول الله عليه الصلاة والسلام بعد ذلك فالف بينهم وجمعهم تحت راية الإسلام .

وَبُعَاثٌ هُوَ مَكَانٌ، وَيُقَالُ حِصْنٌ، وَقِيلَ مَزْرَعَةٌ، عِنْدَ بَنِي قُرَيْظَةَ عَلَى مِيلَيْنِ مِنَ المَدِينَةِ، وَكَانَتْ بِهِ وَقْعَةٌ بَيْنَ الأوْسِ وَالخَزْرَجِ، فَقُتِل فِيهَا كَثِيرٌ مِنْهُمْ، وَكَانَ رَئِيسَ الأوْسِ فِيهِ: حُضَيْرٌ وَالِدُ أُسَيْدِ بنِ حُضَيْرٍ -رضي اللَّه عنه-، وَكَانَ رَئِيسَ الخَزْرَجِ يَوْمَئِذٍ: عَمْرُو بنُ النُّعْمَانِ البَيَاضِيُّ فَقُتِلَ فِيهَا، وَكَانَ النَّصْرُ فِيهَا أَوَّلًا لِلْخَزْرَجِ، ثُمَّ ثبَّتَهُمْ حُضَيْرٌ فَرَجَعُوا، وَانتصَرَت الأوْسُ، وَجُرِحَ حُضَيْرٌ يَوْمَئِذٍ فَمَاتَ فِيهَا، وَذَلِكَ قَبْلَ الهِجْرَةِ بِخَمْسِ سِنِينَ.

وَقَدْ قُتِلَ فِيهَا مِنْ أَكَابِرِهِمْ مَنْ كَانَ لَا يُؤْمِنُ، أَيْ يَتَكَبَّرُ وَيَأْنَفُ أَنْ يَدْخُلَ فِي الإِسْلَامِ، حَتَّى لَا يَكُونَ تَحْتَ حُكْمِ غَيْرِهِ، وَقَدْ كَانَ بَقِيَ مِنْهُمْ مِنْ هَذَا النَّحْوِ عَبْدُ اللَّهِ بنُ أُبَيِّ بنِ سَلُولٍ المُنَافِقُ لَعَنَهُ اللَّهُ .

قَالَ الدُّكْتُورُ مُحَمَّدُ أَبُو شَهْبَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَقَدْ شَاءَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الوَقْعَةُ العَظِيمَةُ قُبَيلُ مَقْدَمِ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- المَدِينَةَ لِتَتَهَيَّأَ النُّفُوسُ لِقَبُولِ الإِسْلَامِ وَالإيْمَانِ بِالرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَليَظْهَرَ فَضْلُ الإِسْلَامِ عَلَى الأنْصَارِ، فَقَدْ جَمَعَهُمْ بَعْدَ الفُرْقَةِ، وَغَرَسَ فِي قُلُوبِهِمُ المَحَبَّةَ بَعْدَ العَدَاوَةِ، وَالوِئَامَ بَعْدَ الشِّقَاقِ .

بَدْءُ إِسْلامِ الأَنْصَارِ:

 الأنصارُ: جمعُ نَاصر كأصحَابٍ وصاحِبٍ، أو جمعُ نَصِيرٍ كأشرافٍ وشريفٍ، واللامُ فيه للعهدِ أي أنصارُ رسولِ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، والمرادُ الأوسُ والخزرَجُ، والأوسُ يُنسبُون إلى أوْسِ بنِ حَارِثَةَ، والخَزْرَجُ يُنسبونَ إلى الخَزْرَجِ بنِ حَارِثَةَ، وكانوا قَبْل ذلك يُعرفون بِبَنِي قَيْلَةَ -بقاف مفتوحة-، وهي الأمُّ التي تَجْمَعُ القَبِيلَتَيْنِ، فسمَّاهم رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- الأنصار

قَالَ الشَّيْخُ مُحَمَّد الغَزَالِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: مَا وَجَدَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي هذِهِ القَبَائِلِ التِي عَرَضَ عَلَيْهَا نَفْسَهُ الشَّرِيفَةَ قَلْبًا مَفْتُوحًا، وَلَا صَدرًا مَشْرُوحًا، بَلْ كَانَ الرَّاحِلُونَ وَالمُقِيمُونَ يَتَوَاصَوْنَ بِالبُعدِ عَنْهُ، وَيُشِيرُونَ إِلَيْهِ بِالأصَابعِ.

وَكَانَ الرَّجُلُ يَجِيءُ مِنَ الآفَاقِ البَعِيدَةِ فيزَوِّدُهُ قَوْمُهُ بِهذِهِ الوَصَاةِ: احْذَرْ غُلَامَ قُرَيْشٍ لَا يَفْتِنُكَ.

وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّ الرَّسُولَ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي هذَا الجَوِّ القَابِضِ، لَمْ يدخل اليَأْسُ قَلْبَهُ، وَاسْتَمَرَّ مُثَابِرًا فِي جِهادِ الدَّعوَةِ حَتَّى تَأَذَّنَ الحَقُّ أَخِيرًا بِالفَرَجِ.


دَخَلَت السَّنَةُ الحَادِيَةَ عَشْرَةَ مِنَ البِعثَةِ، وَرَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَقُومُ بِالدَّعوَةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى لَا يَفْتُرُ عَنْ ذَلِكَ رغْمَ ازْدِيَادِ تَضْيِيقِ قُرَيْشٍ عَلَيْهِ، وَإِثَارَتِهِمْ حَوْلَهُ الشَّائِعَاتِ، وَالأَكَاذِيبِ لِيَصُدُّوا النَّاسَ عَن الِاسْتِجَابَةِ لَهُ، فَلَمَّا اقْترَبَ مَوْسِمُ الحَجِّ مِنْ هذِهِ السَّنَةِ رَاحَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَسْتَعِدُّ لِدَعْوَةِ الوُفُودِ وَالقَبَائِلِ، كَمَا كَانَ يَفْعَلُ فِي كُلِّ مَوْسِمٍ.

فَلَمَّا كَانَ مَوْسِمُ حَجِّ السَّنَةِ الحَادِيَةِ عَشْرَةَ مِنَ البعثَةِ، وَأَرَادَ اللَّه عَزَّ رَجَلَّ إِظْهار دِينِهِ، وَإِعْزَازَ نَبِيِّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَإِنْجَازَ مَوْعِدِهِ لَهُ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَبَيْنَمَا هُوَ عِنْدَ العَقَبَةِ (الجَبَلُ الطَّويل) لَقِيَ رَهْطًا (أقل من عشرة) مِنْ الخَزْرَجِ أَرَادَ اللَّهُ بِهِمْ خَيْرًا، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ هو: "مَنْ أَنْتُمْ؟ ".

قَالُوا: نَفَرٌ مِنْ الخَزْرَجِ.

قَالَ: "أَمِنْ مَوَالِي (حلفاء) اليَهُودِ؟ ".

قَالُوا: نَعَمْ.

قَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أَفَلَا تَجْلِسُونَ أُكَلِّمُكُمْ؟ ".

قَالُوا: بَلَى، فَجَلَسُوا مَعَهُ، فَدَعَاهُم إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَعَرَضَ عَلَيْهِم الإِسْلَامَ، وَتَلَا عَلَيْهِم القُرآنَ.

وَكانَ مِمَّا صَنَعَ اللَّه لَهُمْ بِهِ فِي الإِسْلَامِ، أَنَّ يَهُودَ كَانُوا مَعَهم فِي بِلَادِهِمْ، وَكَانُوا أَهْلَ كِتَابٍ وَعِلْمٍ، وَكَانُوا هُم -أَيْ الأوْسُ وَالخَزْرَجُ- أَهْلَ شِركٍ وَأَصْحَابَ أَوْثَانٍ، وَكَانُوا قَدْ غلبوهم ببلَادِهِمْ، فكَانُوا إِذَا كَانَ بَيْنَهُم شَيْءٌ، هددوهم 

وقَالُوا لَهُمْ: إِنَّ نَبِيًّا مَبْعُوث الآنَ، قَدْ أَظَلَّ زَمَانُهُ، نَتَّبِعُهُ فنَقْتُلُكُم مَعَهُ قتلَ عَادٍ (قومٌ كانوا مُمَرِّدِينَ عُتَاةً جَبَّارِين أهلكهم الله بعد أن كذبوا برسولهم) وإِرَمٍ (هي قبيلةٌ وأمةٌ منَ الأمم، لم يُخْلَق مثل تلك القَبِيلة في البلادِ).

يقول اللَّه تعالى عن اليهُودِ وهم يُهدِّدُونَ الأوسَ والخزْرَجَ بخُرُوج الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-:  {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (٨٩)} سورة البقرة آية (٨٩).


فَلَمَّا كَلَّمَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أُولَئِكَ النَّفَرَ، وَدَعَاهُم إِلَى اللَّهِ، قَالَ بَعْضُهُمْ لِبعضٍ: يَا قَوْمُ! ، تَعْلَمُوا وَاللَّهِ إِنَّهُ للنَّبِيُّ الذِي تَوَعَّدَكم بِهِ يَهُودُ، فَلَا تَسْبِقَنَكُمْ إِلَيْهِ، فَأَجَابُوهُ فِيمَا دَعَاهُم إِلَيْهِ، بِأَنْ صَدَّقُوهُ وَقَبِلُوا مِنْهُ مَا عَرَضَ عَلَيْهِمْ مِنَ الإِسْلَامِ، وَكَانُوا -أَيْ هؤُلَاءِ النَّفَرُ مِنَ الخَزْرَجِ- مِنْ عُقَلَاءِ يَثْرِبَ، أَنْهكَتْهُمْ الحَرْبُ الأَهْلِيَّةِ التِي مَضَتْ مِنْ قَرِيبٍ (حرب بُعاث)، وَالتِي لَا يَزَالُ لَهِيبُهَا مُسْتَعِرًا، فَأَمَّلُوا أَنْ تَكُونَ دَعْوَتُهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- سَبَبًا لِإنهاء الحَرْبِ، 

فَقَالُوا لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: إِنَّا قَدْ تَرَكْنَا قَوْمَنَا، وَلَا قَوْمَ بَيْنَهُم مِنَ العَدَاوَةِ وَالشَّرِّ مَا بَيْنَهُم، فَعَسَى أَنْ يَجْمَعَهُمُ اللَّهُ بِكَ، فَسَنَقْدُمُ عَلَيْهِمْ، فنَدْعُوهُم إِلَى أَمْرِكَ، وَنَعْرِضُ عَلَيْهِمْ الذِي أَجَبْنَاكَ إِلَيْهِ مِنْ هذَا الدِّينِ، فَإِنْ يَجْمَعهُمُ اللَّهُ عَلَيْهِ فَلَا رَجُلَ أَعَزُّ مِنْكَ.


* أَوَّلُ مَسْجِدٍ يُقْرَأُ فِيهِ القُرآنُ بِالمَدِينَةِ:

ثُمَّ انْصَرُفوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- رَاجِعِينَ إِلَى بِلَادِهِمْ، وَقَدْ آمَنُوا وَصَدَّقُوا، فَكَانَ أَوَّلَ مَسْجِدٍ قُرِئَ فِيهِ القُرآنُ بِالمَدِينَةِ مَسْجِدُ بَنِي زُرَيْقٍ .

* عَدَدُ وَأَسْمَاءُ رَهْطِ الخَزْرَجِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ:

وَكَانَ هَؤُلَاءِ الرَّهْطُ سِتَّةَ نَفَرٍ مِنَ الخَزْرَجِ، كَمَا ذَكَرَ ابنُ إِسْحَاقَ، وَهُمْ:

• من بني النجار

١ - أَسْعَدُ بنُ زُرَارَةَ -رضي اللَّه عنه-

 ٢ - عَوْف بنُ الحَارِثِ -رضي اللَّه عنه- 

• مِنْ بَنِي زُرَيْقٍ:

٣ - رَافِعُ بنُ مَالِكٍ الْعَجْلَانِيُّ -رضي اللَّه عنه- .

• مِنْ بَنِي سَلِمَة:

٤ - قُطْبَةُ بنُ عَامِرٍ -رضي اللَّه عنه- 

• مِنْ بَنِي حَرَامِ بْنِ كَعبٍ:

٥ - عُقْبَةُ بنُ عَامِرٍ -رضي اللَّه عنه-

• مِنْ بَنِي عُبَيْدِ بنِ عَدِيٍّ:

٦ - جَابِرُ بنُ عَبْدِ اللَّهِ بنِ رِئَابٍ -رضي اللَّه عنه- ، وَهُوَ غَيْرُ جَابِرِ بنِ عَبْدِ اللَّهِ بنِ حَرَامٍ المَشْهُورِ -رضي اللَّه عنه- 


بيعة العقبة الأولى: 

نكمل معا في الحلقة القادمة إن شاء الله تابعونا بارك الله فيكم